ملاحظات حول قانون القضاء العدلي الجديد: مكاسب هامّة غير حاسمة

نزار صاغية

07/08/2025

انشر المقال

أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي المصادقة على اقتراح قانون تنظيم القضاء العدلي، في ختام الجلسة المنعقدة في 31 تموز 2025. وقد تمّ ذلك من دون نقاش وفي نهاية مداخلات أحادية استغرقتْ على الأكثر نصف ساعة، واختلّت فيها بصورة كبيرة أصول الإدارة التشريعية. 

فمنذ أول الجلسة، أعلن برّي أن “القضاء والمصارف هما آخر ما طُلب منا. يعني ما في طلعات ونزلات. وبدّي خلصّن هيدي الجلسة”. وهذا الإعلان سيجد ترجمتُه في اعتماد إجراءاتٍ غير ديمقراطيّة لفرض النتيجة التي أرادها، بدءًا من التعتيم على المقترح المعروض على الهيئة العامة وفرض التصويت عليه بمادة وحيدة من دون أي نقاش وصولًا إلى إعلان إقراره من دون أيّ تصويت. وفيما كان يُنتظر أن تولّد هذه الإجراءات غضبًا شاملًا لدى النواب، لما فيها من تهميش لدورهم وامتهان لكرامتهم، فإنّ “المرصد البرلماني” سجّل أن بعضهم لجأ إلى إحداث بلبلةٍ وجلبة بهدف قمع أيّ صوت مُعترض، تسهيلًا للتعتيم والتهريب. وتبعًا لذلك، تعيّن علينا أن ننتظر أيامًا معدودة للاطّلاع على النّسخة النهائيّة للقانون الذي أعلن إقرارُه تهريبًا. 

فضلًا عما تقدّم، فإن طبّاخي الصيغة الأخيرة لهذا الاقتراح (وفي مقدّمتهم رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان والنائب علي حسن خليل) دسّوا فيه في الساعات الأخيرة موادّ خارجة تمامًا عن موضوعه ومناقضة لغاياته. وهذا ما أسميناه “دسّ السم في العسل”. فكأنما تيقّنوا أنّ قارب القانون سيعبر في مغارة التشريع تحت أجنحة الصمت والظلمة، فسارعوا إلى تحميله متاعًا غير مشروعة بعضها متفجّر، وهي متاع ما كان بالإمكان تمريرُها بصورة منفصلة. وقد جاء تهريب القانون بعد دسّ السمّ فيه، ليُضاف إلى مجموعة من الحيل المستخدمة فيه بهدف تفريغ ضمانات أساسيّة من مضمونها. وكما كان متوقّعا، انتظرت اللجنة سنوات لتعلن عن نواياها الحقيقيّة بشأن تكوين مجلس القضاء الأعلى مراعاة للتوازن الطائفي، متراجعةً عن اقتراحاتها السابقة بانتخاب سبعة من أعضائه.

وفيما تناولنا في مكان آخر المخالفات الكبرى الحاصلة في إدارة العملية التشريعية، سنكتفي هنا بإبراز التراجعات الحاصلة في بعض بنود القانون، قبلما نجري تقييمًا لأهمّ المكاسب التي تحققت فيه. 

السمّ في العسل 

تمّ ذلك من خلال زجّ لجنة الإدارة والعدل فقرة بالغة الخطورة في متن القانون، علمًا أنّ هذه المادّة أُضيفت إلى الاقتراح في ربع الساعة الأخير، ولم يردْ أيّ ذكر لها في أيّ من صيغ الاقتراحات الثلاث السابقة التي كانت وضعتها لجنة الإدارة والعدل في 2021 و2023 ولا في مشروع القانون. 

وقد منحت هذه المادة النائب العام التمييزي صلاحية خارقة قوامها صلاحيّة إعطاء الأوامر لأيّ من أعضاء النيابة العامة بكفّ التعقبات في أيّ جريمة. وفيما جرت على هامش الجلسة مفاوضات بين رئيس الحكومة نواف سلام ووزير العدل عادل نصار من جهة وكلا من رئيس اللجنة عدوان وعلي حسن خليل من جهة أخرى لإلغاء هذه الصلاحية، فإنّ عدوان أعلن خلال الجلسة تمسّكه بها. والواقع أن منح هذه الصلاحية إنما يهدف إلى تحقيق غاية تناقض تماما الغاية من القانون والتي تقوم على توفير ضمانات لاستقلاليّة القضاء وضمنًا قضاة النيابة العامة. فلئن هدفت المادة 42 منه في أصلها إلى وضع ضوابط على سلطة النائب العام التمييزي من خلال فرض أن تكون التعليمات الموجّهة لأعضاء النيابة العامة كما جاء في قانون أصول المحاكمات الجزائية بشأن تحريك الدعوى العامة أو تسييرها “خطيّة ومعلّلة” و”أن تودع في ملف القضية المعنية”، تأتي الإضافة الحاصلة منذ أقلّ من أسبوع بمثابة تدبيرٍ مضادّ مؤدّاه العكس من ذلك تمامًا أيّ تضخيم الهرميّة داخل النيابات العامة من خلال منح صلاحيات إضافيّة للنائب العام التمييزي في مجالات لم يتجرأ حتى مشرّع 2001 في حقبة الوصاية السورية من الدخول إليها. وبالفعل، ورغم كل المآخذ التي وجّهت إلى تشريع 2001 لجهة تعزيز نفوذ النائب العام التمييزي بهدف التحكّم بالنّظام الجزائيّ من خلال شخص واحد (عدنان عضوم آنذاك)، وجب أن نسجّل ونشدّد أن مشرّع 2001 لم يصل إلى ما وصل إليه صانعو هذه الفقرة. 

وعليه، وإذ تمنح هذه الآلية شخصا واحدا إمكانية صرف النّظر عن الملاحقة لاعتبارات ملاءمة يُترك تقديرها له بمنأى عن أي معايير موضوعيّة، فإنها تؤدي في الوقت نفسه إلى خلخلة النظام الجزائيّ الذي يقوم على إلزامية ملاحقة الجرائم. فكأننا نصبح أمام حالة جديدة من منطق السُّلطة RAISON D’ETAT الذي يبرّر استبعاد القانون بهدف تحقيق مصالح تبدو في لحظة معيّنة أعلى شأنًا منه ومن مبدأ المساواة أمام القانون. ويحدث هذا التحوّل الكبير بشطبة قلم من بعض النواب، من دون أن يرافقه أيّ بحثٍ جدّي عن منافع هذا التحول أو مخاطره. أو كأنما السلطة الحاكمة (التي لها اليد الطولى في تعيين النائب العام التمييزيّ) تحفظ لنفسها مقابل منح القضاة استقلاليّتهم، إمكانية التنصّل من سلطتهم كلّما تعارضتْ مع مصالحها. ويُخشى إذاك أن ينتهي منح هذه الصلاحية إلى مفاعيل مشابهة لما أدّى إليه تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز في فترة (شباط 2022-نيسان 2025) وعمليّا أن يكون تعويضًا عنها. وكنّا شهدنا على ما يمكن أن تسفر عنه هذه الصلاحيّة في قضايا مثل قضية صرافة مكتف أو قضية الحجز على ممتلكات المصارف أو قضايا المصارف أو المرفأ.  

وهذا ما دفعنا إلى توصيف هذه الإضافة على أنّها بمثابة دسّ سمّ في العسل، وهو سمّ سيتجرّعه المجتمع برمّته وهو ينهل من كأسٍ مسمّاها “استقلال القضاء”. 

إضعاف ضمانات الاستقلالية باسم “خصوصية الطائفية”  

منذ بدء المسار، ساد ما يشبه تفاهم أن إحدى أهم ضمانات استقلالية القضاة تتمثل في تغيير تركيبة مجلس القضاء الأعلى، في اتّجاه زيادة عدد الأعضاء المنتخبين فيه من قبل القضاة مقابل تخفيض عدد الأعضاء المعيّنين من الحكومة. إذ أنّ سبب وجود هذا المجلس هو بالتحديد ضمان تحصين القضاة إزاء تدخّل السلطة السياسية، في كل ما يتّصل بمساراتهم المهنيّة، وأنه أمر لا يتصوّر نجاحه إذا كان مجرّد وكيل لها وإذ لم يتمتّع بصلاحيّات كافية يمارسها باستقلالية في إدارة شؤون القضاء. ولكن، طوال الفترة التي استغرقتها صناعة القانون، كان هنالك سؤالٌ غائبٌ حاضر بشأن المعادلة الطائفية الواجب اعتمادها داخل المجلس وكيفية المحافظة على هذه المعادلة في حال فتح الباب لانتخاب عدد كبير من أعضائه بعد انتزاع صلاحية تعيينهم من السلطة التنفيذية الضامنة المثلى لها.   

وقد اختلفت الإجابات على هذا السؤال في الصيغ المختلفة للاقتراحات ومشروع القانون أعلاه، علمًا أن لجنة الإدارة والعدل كانت تعمّدت تجاهله في اقتراحاتِها الأولى لتعود وتحوّلُه إلى السّؤال المركزيّ مع بلوغ ورشة القانون مراحلها الأخيرة. وهذا ما تجلّى في جلستها المنعقدة في تاريخ 24 تموز 2025 حيث أعلن رئيس اللجنة جورج عدوان تصوّرًا جديدًا لتركيبة المجلس قوامه إضافة عضو حكمي رابع (هو رئيس معهد الدروس القضائية الذي يفترض أنه شيعي) مقابل تخفيض عدد المنتخبين إلى 4 فضلًا عن اعتماد آلية تصحيحيّة للانتخابات قوامها تمكين القضاة الحكميين والمنتخبين (ومجموعهم ثمانية) انتخاب عضوين إضافيين استكمالا للمجلس. وهذا ما أكّده عدوان في تقرير اللجنة حيث جاء أنّ هذه الصيغة أقرت “مراعاة للتوازن الوطني المعمول به”. ويمكن تفسير هذه الاستدارة للجنة في كونها استشعرتْ قرب تمرير القانون، مما اضطرّها للكشف عن نواياها الحقيقية مع الابتعاد عن إعلاناتها الإصلاحية السابقة (مثل انتخاب 7 أعضاء) والتي اتّضح أنها كانت مجرّد مواقف دعائية لا تمتّ بصلة إلى حقيقة ما تريده في هذا الخصوص. 

وفيما يجد إرساء آلية تصحيحية لنتائج الانتخابات ما يبرره في الوضع اللبناني (وهو أمر كانت المفكرة القانونية أول من اقترحته في اقتراحها 2018 لمعالجة الهواجس الطائفية مما قد تسفر عنه الانتخابات من اختلال)، فإن مراهنة اللجنة على تطييف المراكز القضائية الأربعة العليا والتي تولي أصحابها العضوية الحكمية في المجلس من أجل تحقيق هذا التوازن إنّما يشكل مخالفة جسيمة للقاعدة الدستورية بحظر تخصيص أي مركز لأي طائفة بعينها، مخالفة سيكون لها آثار سلبية إضافية على تنظيم القضاء. وقد بدت اللجنة من خلال ذلك وكأنها تذهب في اتجاه التخلّي عن إحدى أهم القواعد الدستورية للتخفيف من حدّة الطائفية وتاليا في اتجاه إيلاء الهواجس الطائفية وزنًا أكبر بكثير مما يسمح به الدستور.

ولعلّ أكثر صلاحيات المجلس التي قد تتأثر بنتيجة تخفيض عدد المنتخبين إلى 4 من أصل 10، هي صلاحيته في حسم أيّ خلاف مع وزير العدل بشأن التشكيلات القضائية، والتي تفترض توفر أكثرية معززة من 7 أعضاء. وتجدر الإشارة هنا إلى أن لجنة البندقية كانت أوصتْ بتحديد الأغلبية المطلوبة بأغلبية أعضاء المجلس من دون زيادة (أي 6 أعضاء) لصعوبة توفير أكثرية 7 أعضاء في مواجهة وزير العدل، وأن توصيتها هذه كانت وردت في سياق تعليقها على اقتراح قانون كان حفظ للقضاة المنتخبين 7 مقاعد من أصل 10 وهي تزداد إذًا وجاهةً بعدما أصبح عدد المنتخبين 4 فقط.      

أي إيجابيات؟ أي مكاسب؟ 

بعد كل ما تقدم، بقي أن ننظر إلى الجوانب الإيجابية من القانون، أو ما نجح خطاب استقلالية القضاء في انتزاعه. ومن أبرز ما يمكن تسجيله هنا، الأمور الآتية: 

  1. تعزيز استقلالية الهيئات القضائية بدرجة أو بأخرى. فإلى جانب التحول الهام الحاصل في إشراك القضاة في انتخاب ممثلين عنهم في مجلس القضاء الأعلى ولو بصورة يؤمل تطويرها، تم تعديل طريقة اختيار كبار المسؤولين القضائيين المعيّنين من الحكومة على نحو يقيّد صلاحيتها بقوائم المرشحين التي يعدها مجلس القضاء الأعلى. وإذ تمّ تكريس مبدأ استقلالية هيئة التفتيش القضائي مع إلغاء إشراف وزير العدل عليها، تمّ تعديل كيفية تعيين أعضاء هيئة التفتيش القضائي من قبل الحكومة على أساس لائحة مقدمة من مجلس القضاء الأعلى. 
  1. تعزيز الحوكمة داخل القضاء، من خلال ضمان الشفافية الداخلية والخارجية لمختلف الهيئات القضائية. وليس أدلّ على ذلك من إلزام جميع هذه الهيئات بوضع أنظمتها الداخلية خلال مهل محدّدة قانونًا، وهي الأنظمة التي يؤمل منها استكمال الإصلاح القانونيّ. يضاف إلى ذلك إرساء آليات جديدة بالغة الأهمية للمرة الأولى في التشريعات القضائية، منها فرض التقييم الدوري للقضاة وإرساء آليات للترشّح للمراكز القضائية العامة والتكوين المستمر للقضاة داخل معهد الدروس القضائية.  
  1. تكريس مبدأ المساواة بين القضاة

تكريس مبدأ المساواة بين القضاة في أكثر من مكان. فعدا عن إعادة الاعتبار للمستشارين والفئات الشابة من خلال فتح باب الترشيح أمامهم أسوة برؤساء الغرف وتوسيع دائرة الانتخابات لتشمل جميع القضاة، تكرّس هذا المبدأ أيضا في نصّ صريح جاء فيه حرفيّا: “يُحظر إجراء أي تمييز من أي نوع في التشكيلات القضائية، ولا سيما التمييز على أساس العنصر أو الجنس أو الدين أو المذهب”. وبالطبع، تنسجم هذه المادة مع المادة 95 من الدّستور التي تمنع “تخصيص أي مركز قضائيّ أو إداري لأيّ طائفة” وتغلب الكفاءة والاختصاص على أيّ اعتبار طائفي. ويُرجى تاليّا أن تشكّل هذه المادّة مدخلًا لتجاوز تخصيص المراكز الطائفية. 

كما هدف القانون إلى التخفيف من الممارسات التمييزيّة بين القضاة والتي تقوم على تعيينهم في لجان، بحيث حصر التعيين في حدود لجنة واحدة ولمدة 5 سنوات على الأكثر في اللجنة ذاتها، بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء المبنيّة على تقرير لجنة التقييم. 

بالمقابل، فإن القانون أعاد فتح باب انتداب القضاة للقيام بأعمال في الإدارت العامة، من دون منعهم من العودة إلى القضاء. 

  1. تكريس مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه 

نصّ القانون على مبدأ عدم جواز نقل القاضي من دون رضاه للمرة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني. لكن خففت من هذا الإعلان من خلال وضع حدود زمنية له قصيرة نسبيا (4 سنوات). 

  1. تكريس حق القضاة بالترشح للمراكز القضائية

تمّ تكريس حق القضاة بالترشّح للمراكز القضائية، فضلا عن حقهم بإجراء مقابلة مع مجلس القضاء الأعلى أو من يعينه. وقد نجحت الحكومة في اللحظات الأخيرة في حذف الشروط التعجيزية التي كانت أدخلتها لجنة الإدارة والعدل من قبل.   

  1. تكريس حريّة القضاة بالتعبير والتجمع وتأسيس جمعيات أسوة بجميع المواطنين 

وهذا ما ورد في مادتين في القانون: الأولى، وعنوانها “حرية التعبير والتجمع وتأسيس الجمعيات”، نصت على أن القضاة يتمتعون بجميع الحقوق والحريات المكرسة في الدستور والقوانين المرعية الإجراء، وأن لا حدّ على هذه الحقوق والحريات إلا ما تفرضه استقلالية القضاء ومناقبيته. وتكمن أهمية هذه المادة في كونها تؤكّد أن التمتّع بهذه الحقوق والحريات إنما يشكّل ضمانة للاستقلالية، فضلا عن أن حدودها الوحيدة هي ما تفرضه استقلالية القضاء ومناقبيّته. وقد تأكد ذلك في مادة أخرى استعادت حرفيّة ما ورد في وثيقة بنغالور للأخلاقيات القضائية والتي تمّ إقرارها كوثيقة مرجعيّة في الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة، ومفادها: “يتمتع القاضي بحرية التعبير والعقيدة والتجمع والانتساب إلى جمعيات، ولكن يتعين عليه دائماً، عند ممارسته تلك الحقوق، أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها” مع إضافة عبارتي: “مبادئ أخلاقيات القاضي ومدونة السلوك”، لا تغيّران شيئا من مبدئية هذه الحرية. والمفيد في الإحالة إلى بنغالور هي الاستفادة من كل الشروحات الدوليّة لهذه المادة بهدف إحداث توازن بين حرية القاضي ووجوب المحافظة على حياديّته واستقلاليّته. 

ورغم وضوح هذا المبدأ، تمّ إضافة فقرة مفادها أنه “يتوجب على القاضي الذي يرغب بالظهور على وسائل الإعلام المختلفة أن يعلم رئيس المجلس الأعلى للقضاء بذلك قبل 48 ساعة على الأقل”، علمًا أن مجلس القضاء الأعلى كان طلب استحصال القاضي الذي يرغب بذلك على إذن من رئيس المجلس. 

وإذ تُثير هذه الفقرة مخاوفَ من أن يتحوّل الإعلام المُسبق إلى وسيلةٍ لممارسة ضغوط لتقييد هذه الحريّة بصورة أو أخرى، يبقى هذا التخوّف محدودًا في ظل إعلان مبدأ الحريّة بصورة واضحة من دون لبس وبالاستناد إلى المعايير الدولية، مما يجعل أيّ ضغط يمارس في هذا الخصوص بمثابة إكراه معنوي لمنع القضاة من ممارسة حريتهم يعاقب عليه القانون. 

  1. تعريف “عدم أهلية القضاة” منعًا لعزلهم من دون محاكمة 

صحّح القانون إحدى أخطر الموادّ في القانون الحالي والتي تمّ تطبيقها تعسّفا على نحو يُجيز عزل قضاة من دون محاكمة عادلة مع حرمانهم من حقّ المراجعة أمام مرجع قضائي محايد، وهي المادة الشهيرة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي الحالي. 

وقد تمثّل التصحيح في تعريف حالات عدم الأهلية حيث حصرت في إثنتين: حالة فقدان الأهلية الجسدية أو النفسية وعلى أن يتم إثباتها في تقرير خبير، وحالة الحصول على أدنى تقييم لمرتين متتاليتين. وأحيط تعديل المادة على هذا الوجه بأن يتم إعلان عدم الأهلية بأكثرية معززة في التفتيش القضائي كما في مجلس القضاء الأعلى. 

كما فتح القانون أمام القاضي المعلنة عدم أهليته إمكانية الطعن أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وذلك بخلاف القانون الحالي الذي يحرمه من أي حقّ من حقوق المراجعة القضائية. 

وفيما لم يعرّف القانون معنى “الحصول على أدنى تقييم”، وهو أمر يمكن استدراكه عند تحديد معايير التقييم من قبل مجلس القضاء الأعلى، فإن القانون ضمن للقاضي الحاصل على أدنى تقييم الطعن أمام مجلس شورى الدولة بنتيجة تقييمه.   

  1. ضمان حقّ القضاة في الطعن في القرارات الفردية والتنظيمية للهيئات القضائية

يتأتّى هذا الأمر من فتح باب الطعن في قرارات المجلس الفردية أمام القاضي الطبيعيّ (مجلس شورى الدولة)، بما يضمن احترام الحقوق المكرسة بموجبه. 

لكن، بالمقابل حالت حساسيّة مجلس القضاء الأعلى دون الاعتراف بحق القاضي الطبيعي بما يتصل في القرارات الأكثر خطورة، ضمنا القرارات التأديبية والتي بقي الطعن فيها محصورا فيها داخل مجلس القضاء الأعلى، على نحو يحرم القضاة من إمكانية استئناف القرارات أمام مرجع مغاير عن المرجع الذي أصدر الحكم الابتدائي وتاليًا من إمكانية ممارسة حقهم في التقاضي أمام القاضي الطبيعي، على نحو يخالف الدستور عملًا بقرار المجلس الدستوري رقم 5/2000 تاريخ 27/06/2000. الأمر نفسه بخصوص إعلان عدم الأهلية والذي يطعن فيه أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز. 

إلا أنه ومن دون التقليل من خطورة ذلك، يسجّل بالمقابل للقانون اعتماد إصلاحات عدّة في القضايا التأديبيّة، أهمها أنه أعاد تعريف الخطأ التأديبيّ انطلاقا من التعريف الذي كانت اقترحته المفكرة في 2018 على النحو الآتي: “كل إخلال بواجبات العمل القضائي وكل عمل أو امتناع عن عمل من شأنه أن يمس مبادئ الأخلاقيّات القضائيّة أو أن يزعزع الاحترام والثقة بالعمل القضائيّ المرفق العام للقضاء يعدّ مخالفة تأديبيّة قابلة للملاحقة”. وعليه، يكون القانون قد جرّد الخطأ التأديبيّ من ثقل مفاهيم مطاطة مثل الشرف والكرامة والأدب، وهي المفاهيم التي حذّرت لجنة البندقية من خطورتها. ولئن لم يؤخذ باقتراح المفكرة بتفصيل المخالفات التأديبية بعد تصنيفها وفق خطورتها، فإنه بالمقابل ألزم مجلس القضاء الأعلى بنشر الحيثيّات الهامّة في القرارات التأديبيّة على نحو يسمح بتحديد مفهوم الخطأ التأديبي ومدى خطورته، على ضوء الاجتهاد القضائي. بالمقابل، كما ألغى القانون ما وضعه مشروع قانون الحكومة بناء على توصية لجنة البندقية وتيمّنا باقتراح المفكرة في 2018 لجهة وجوب تناسب العقوبة مع خطورة الخطأ التأديبي.  

كما يسجل له أنه حصر إمكانية وقف القاضي عن العمل بالمجلس التأديبي ومجلس القضاء الأعلى مع تجريد وزير العدل من هذه الصلاحية. وإذ ضمّن النصّ هنا للقاضي الموقوف عن العمل تقاضي راتبه كاملا طوال فترة توقيفه، فإنه منعه بالمقابل من الطعن في هذا القرار على نحو يعدّ انتقاصًا من مبادئ المحاكمة العادلة. 

ويسجل للقانون أخيرًا أنه أدخل للمرّة الأولى إمكانيّة تحويل المحاكمة التأديبية إلى محاكمة علنية بطلب من القاضي موضوع الملاحقة أو من هيئة التفتيش القضائيّ، عملا بمبدأ علانية المحاكمة، وفق ما كانت اقترحتْه المفكّرة في 2018.

بقي أن نشير أنه بمعزل عن إيجابيات القانون وسلبياته، فإن الإنجاز الأكبر قد حصل على صعيد الخطاب العام مع تحويل إصلاح القضاء إلى أولوية اجتماعية وبناء خبرات وطنية قادرة على الخوض في هذا المجال. زخم هذا الخطاب هو العامل الأقوى في ضمان استكمال الإصلاح ومعالجة هناته وثغراته مستقبلا. فنأمل ونراقب.