اقتراح إنشاء بلدية جديدة "ضهور الهوا": التشريع كجدار فصل بين الطوائف

نيقولا غصن

26/04/2024

انشر المقال

تقدّم النائب حيدر ناصر باقتراح قانون معجّل مكرّر بتاريخ 22 نيسان 2024 يقضي بإنشاء قرية ضهور الهوا في قضاء الكورة على أن يكون لها "بلدية مؤلفة من خمسة أعضاء بمن فيهم رئيس ونائب الرئيس". وقد نص البند الثالث من المادة الوحيدة أيضا على أن يكون "لقرية ضهور الهوا مختاران"، بينما منح البند الرابع وزير الداخلية صلاحية "لانتداب خمسة أعضاء من جمعية "لقرية أجمل ضهور الهوا" التي جرى تأسيسها سنة 2021 " لممارسة اختصاص البلدية وأعمالها التأسيسية".

وقد أشارت الأسباب الموجبة أن "سكان ضهور الهوا يعانون من ستينات القرن الماضي لجهة عدم لحظهم في التنظيم الإداري، بالرغم من أنها قرية تاريخية مستقلة ديموغرافيا" ما يؤثر "بشكل جذري على حياة المواطنين في هذه القرية لجهة الخدمات المعيشية أو لجهة المرافق الأساسية" ما يوجب إنشاء هذه البلدية الجديدة.

لا بدّ من التذكير أولا أنّ قرية ضهور الهوا تقع بين "بلدتيْ بطرّام وبصرما ليس لها استقلاليّة عقاريّة ولا سجلّ نفوس (...) سكّانها علويّون قدموا إليها من سوريا منذ زمن بعيد، وقد حصل قسم منهم على الجنسيّة اللبنانيّة وتبعوا قيود باب التبّانة بطرابلس. عددهم نحو 700 نسمة"[1]. وهكذا يتبين أنّ هذا الاقتراح ينطلق من الاعتبارات الطائفية ذاتها التي أملت على النائب حيدر ناصر التقدّم باقتراح قانون لإنشاء حي جبل محسن في طرابلس.

إن هذا الاقتراح يستوجب الملاحظات التالية:

إنشاء البلدية بموجب قانون؟ 

تنص المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30 حزيران 1977 (قانون البلديات) على التالي: "تُنشأ بلدية في كل مدينة او في كل قرية أو مجموعة من القرى الوارد ذكرها في الجدول رقم (1) الملحق بالمرسوم الاشتراعي رقم (11) تاريخ 29/12/1954 وتعديلاته وفقا لأحكام هذا القانون" ما يعني أن القرى أو مجموعة من القرى الوارد ذكرها في هذا الجدول سيتمّ إنشاء بلديّة فيها. فالاقتراح الحالي بنصّه في بنده الأول على تعديل هذا الجدول عبر إضافة قرية ضهور الهوا من ضمن قرى قضاء الكوره في محافظة الشمال يكون قد أتاح لهذه القرية إمكانية إنشاء بلدية فيها.

تجدر الإشارة إلى خلل قانوني في النصوص التي ترعى إنشاء البلديات في لبنان. إذ إن المادة الخامسة من المرسوم الاشتراعي رقم 118 تنص على التالي: "تنشأ البلدية بقرار من وزير الداخلية"، لكن المشكلة تكمن في أن هذه المادة ألغيت بموجب المادة 45 من القانون رقم 665 الصادر في 29 كانون الأول 1997، علمًا أن إنشاء البلديّات استمرّ حتى اليوم بموجب قرار لوزير الداخلية. وهذا ما تشهد عليه عشرات القرارات المنشورة في الجريدة الرسمية والتي تستحدث بلديات في مختلف مناطق لبنان شريطة أن تكون مذكورة في الجدول رقم 1. فمجرّد ورود اسم القرية في الجدول لا يكفي لنشوء البلدية بل لا بد من صدور قرار عن وزير الداخلية بإنشاء تلك البلدية.

جراء ما تقدم، يمكن الاستنتاج أن استكمال إنشاء البلديات في القرى الوارد ذكرها في الجدول رقم 1 يحتاج إلى تدخل وزير الداخلية وهذا ما يتبيّن من الممارسة الحالية. غير أن المادة الخامسة من المرسوم الاشتراعي رقم 118 التي تشكل السند القانوني الذي يمنح وزير الداخلية تلك الصلاحية قد ألغيت، ما يطرح علامات استفهام حول المسار القانوني الواجب اعتماده لاستكمال استحداث بلدية ضهور الهوا: فهل يتوجب صدور قرار عن وزير الداخلية لإنشاء هذه البلدية عملا بالممارسة القائمة أو أن الاقتراح الحالي ينشئ بذاته مباشرة تلك البلدية وهو أمر مستغرب كون القانون لا ينصّ في المبدأ على استحداث بلدية معينة.

إن هذا التضارب بين الممارسة والنص القانوني أرغم مجلس شورى الدولة على الاجتهاد في هذا المجال إذ اعتبر أنه على الرغم من إلغاء المادة الخامسة المذكورة فانه يستفاد من مجمل النصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة بوزارة الداخلية وانطلاقا من المادة 66 من الدستور التي تنيط بالوزير إدارة مصالح الدولة وتطبيق الأنظمة والقوانين التي تدخل في اختصاصه "وتطبيقا للقاعدة التي توجب تفسير النصوص بصورة متجانسة بدلا من تعطيلها، فإن المرجع الصالح لإنشاء البلدية وتحديد نطاقها الإداري هو وزير الداخلية" (قرار رقم 567 تاريخ 12/7/2006).

وهكذا يتبين أن الاقتراح الحالي لا يعالج كيفية استكمال انشاء البلدية إذ هو يضيف قرية ضهور الهوا إلى الجدول رقم واحد ومن ثم يعلن أن بلدية هذه القرية تتألف من خمسة أعضاء، أي أن الاقتراح يفتح الإمكانية لضهور الهوا كي تصبح بلدية لكنه لا يذكر صراحة كيفية استحداثها: فهل المقصود أن الاقتراح بمجرد اقراره سيستحدث هذه البلدية من دون الحاجة إلى أي تدبير آخر، أو أن الممارسة الحالية عملا باجتهاد مجلس شورى الدولة لا تزال مطبقة بحيث يتوجب صدور قرار عن وزير الداخلية لاستكمال إنشاء البلدية؟

مدى ملاءمة إنشاء بلدية مستقلة: اقتراح دوافعه طائفية

إن الطبيعة الفريدة والاستثنائية لبلدية ضهور الهوا لا يمكن تفسيرها إلا عبر رغبة مقدّم الاقتراح بمنح تلك القرية الاستقلالية القانونية التي تسمح لسكانها العلويين من الحصول على تمثيل بلديّ لإدارة شؤونهم المحلية. وقد أشارتْ الأسباب الموجبة تلميحا إلى هذا الأمر عندما تكلمت عن "استقلال القرية الديمغرافي" ما يفهم منه أن تكوينها الطائفي يختلف عن محيطها الأمر الذي يبرر إنشاء بلدية خاصة بها. ويعيد الاقتراح التذكير بالإشكالية ذاتها التي طرحها اقتراح إنشاء حي جبل محسن.  

إذ إن الاقتراح الحالي ينطلق من فرضية أحقية كل قرية تتكون من طائفة واحدة بالحصول على بلدية مستقلة لها وهو أمر لا بد من التنبيه منه إذ بدل أن يتجه المجتمع في لبنان نحو تخطي الحدود الطائفية في العمل السياسي والإنمائي، ترى الطائفة هنا تستخدم ليس فقط بوصفها المحدّد الرئيسي إن لم يكن الوحيد للتمثيل السياسي والبلدي وحسب، إنما أيضا بوصفها جدار فصل بين الأحياء والقرى، جدار فصل يعيش كل من ورائه في ما يشبه الإقطاع أو الغيتو الطائفي. ولا شك أن هذا الأمر يعود إلى ارتفاع وتيرة الخطاب الطائفي واستغلال السلطة السياسية لواقع المجتمع اللبناني التعددي من أجل إحكام سيطرتها على اللبنانيين وتحويل الطائفة إلى الأفق الوحيد المتاح لهم للدفاع عن مصالحهم وتحصيل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

ومن البيّن أن هذه الإشكالية الطائفية إنما حجبت إشكالية أخرى وهي مدى ملاءمة زيادة عدد البلديات مع القدرات البشرية والمادية المحدودة للعديد منها المتاحة لها للقيام بدورها. إذ أنّ إنشاء البلدية لا يكفي بحدّ ذاته لإحداث التنمية وتأمين الخدمات لمنطقة معينة، لا سيما في ظل الانهيار الذي يعيشه لبنان وحرمان البلديات من مستحقاتها. فهذا الاقتراح يعيد طرح مسألة تضخّم عدد البلديات الذي تطور من 339 في انتخابات 1963[2] حتى وصل إلى 1059 بلدية في إحصاء بتاريخ 3 نيسان 2023[3] وهو على ازدياد مستمر بفعل قرارات وزير الداخلية، من دون أن يترافق هذا التطور مع اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تعطي البلديات الإمكانيات المالية والبشرية من أجل القيام بدورها الإنمائي على أكمل وجه.

اقتراح يلغي الانتخابات: تعيين أعضاء البلدية بقانون؟

أمر آخر نلحظه وهو أن الاقتراح يلغي الانتخابات في البلدية الجديدة ويحرم المواطنين من حقّهم في اختيار ممثليهم لإدارة شؤونهم المحلية. وعلى الرغم من أن الاقتراح أشار إلى تمديد ولاية المجالس البلدية في كل لبنان، لكن ذلك لا يمنع أن ينصّ القانون على ضرورة اجراء انتخابات بلدية خاصة بقرية ضهور الهوا خلال مهلة معينة تعقب نشر القانون على أن تنتهي ولاية البلدية الجديدة مع ولاية البلديات الممددة في كل لبنان.

بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى الإبهام الذي يعتري الفقرة الرابعة من الاقتراح حول تعيين الأعضاء، فإذا كان يفهم منها أن هذا الانتداب يتم بهدف تأسيسها، غير أنّه لا يوضح فيما إذا كان يتمّ لمرّة واحدة فقط، أو أنه سيكون القاعدة الدائمة في تعيين أعضاء هذه البلدية المقترح استحداثها.  

والأغرب أن الاقتراح لا يكتفي بالنص على تعيين المجلس البلدي لكنه يحدد بالاسم أن وزير الداخلية ملزم بتعيين خمسة أعضاء من جمعية "لقرية أجمل ضهور الهوا" كأعضاء في المجلس البلدي الأول. وهكذا يكون الاقتراح قد خالف مجدّدا الطبيعة العامة والمجردة للقانون، إذ فرض على السلطة التنفيذية تعيين أفراد محددين، لا بل أن هذه الجمعية يمكن أن تتلاعب بعدد أعضائها وهويتهم من أجل ضمان تعيين أعضاء محددين في البلدية الجديدة. فتعزيز العمل الانمائي في قرية ضهور الهوا يجب أن يترافق مع تعزيز للحياة الديمقراطية فيها إذ لا معنى للامركزية الإدارية إذا كانت الكلمة الفصل في تعيين أعضاء البلدية تعود للسلطة السياسية، بحيث يتم فرضها فرضا بقانون.

مجلس بلدي استثنائي: شذوذ عن الانتظام العام

ينص الاقتراح على أن المجلس البلدي المزمع استحداثه يتألف من خمسة أعضاء فقط ما يتعارض مع المادة 24 من القانون رقم 665 التي تنص على أن الحدّ الأدنى لأعضاء بلدية هو تسعة أعضاء بالنسبة للبلديات التي يقل عدد أهاليها المسجلين عن الـ 2000 شخصا. فهذا التعارض يؤدي إلى الإخلال بالطبيعة العامة للأحكام القانونية وشمولها جميع البلديات ما يعني أن الاقتراح يوجد أحكاما استثنائية خاصة ببلدية ضهور الهوا فقط، ما يجعل هذه البلدية في حال إقرار القانون فريدة في لبنان تتألف فقط من خمسة أعضاء.

اقتراح مبهم لملء المقاعد الاختيارية

تنص الفقرة الثالثة من المادة الوحيدة للاقتراح على "أن يكون لقرية ضهور الهوا مختاران"، من دون أن يحدد، على غرار ما نص عليه بخصوص أعضاء البلدية، كيفية ملء هذه المقاعد، أكان ذلك من خلال القيام بانتخابات محلية أو أيضًا من خلال التعيين كما في حالة أعضاء البلدية.

ولا بدّ أمام هذه الثغرة في الاقتراح من تطبيق النصوص العامة التي تعطي الانتخابات مدخلًا وحيدًا لملء المقاعد الاختيارية. غير أنّ ذلك سيخلق عدم توازن بين الأعضاء البلديين المعينين الذين ستكون شرعيتهم الشعبية موضع تشكيك والمختارين المنتخبين.

 

صياغة غير دقيقة ومبهمة  

يعتري الاقتراح شوائب في صياغته القانونية لناحية الأصول الشكلية في كتابة القوانين إذ لا يجوز استعمال صيغة إصدار القوانين التي يتم نشرها في الجريدة الرسمية في الاقتراح نفسه كون صيغة الإصدار تتم إضافتها على القانون بعد اقراره في مجلس النواب وهي تدخل في صلاحيات رئيس الجمهورية. فالاقتراح يجب أن يتضمن المواد القانونية فقط بينما الاقتراح الحالي يبدأ بصيغة الإصدار المعهودة: "أقر مجلس النواب وينشر رئيس الجمهورية القانون التالي نصه" وهو أمر لا يستقيم إطلاقا من الناحية الدستورية كون مجلس النواب لا يحق له التصويت على صيغة الإصدار.

 

في الخلاصة، نستشفّ من هذا الاقتراح ومن الاقتراح المقدّم أيضًا من النائب حيدر ناصر لإنشاء حيّ جبل محسن أن التوجّه في هاتين المبادرتين ليس لدمج السكان المختلفين طائفيًّا ولك لفرزهم بحجّة إعطائهم حقوقهم والحفاظ على الوئام الاجتماعي بينهم وبين السكان المجاورين. يعكس هذان الاقتراحان حالة التشرذم الطائفي التي يعيشها لبنان في ظلّ الانهيار الاقتصادي والأزمة السياسية المستفحلة، ويستشفّ منهما أن الطائفة أضحت المدخل الوحيد الذي يسمح بتأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين وبمثابة جدار فصل بين إقطاعات أو غيتوات طائفية. فمن أحياء المدن إلى المؤسسات الدستورية مرورًا بالبلديات، تتحول الطائفة إلى الأفق السياسي الوحيد المتاح للبنانيين من أجل التعبير عن أنفسهم، بما يناقض تماما الطموح المعلن في المادة 95 من الدستور.

 


[1] طوني مفرج، موسوعة قرى لبنان، الجزء 15، دار نوبليس، ص. 130.

[2] راجع دراسة الدولية للمعلومات

[3] راجع دراسة الدولية للمعلومات المنشور على الموقع الإخباري للكتائب