الفرز الطائفي في حيّ التبانة - جبل محسن: أو "الأحياء" كباب لتطييف الانتخابات الاختيارية؟

نيقولا غصن

24/04/2024

انشر المقال

تقدم النائب حيدر ناصر باقتراح قانون معجل مكرّر بتاريخ 22 نيسان 2024 يقضي بإنشاء حيّ جبل محسن وتعيين مختارين للعناية بشؤون المواطنين من سكان هذا الحيّ. وقد نصّ الاقتراح على أن يكون للحيّ سبعة مختارين بينما نصت الفقرة الثالثة أنّه ولمرّة واحدة وبصورة استثنائية ولغاية إنشاء سجلات نفوس الحي فور نشر هذا القانون، يقوم وزير الداخلية "بتعيين خمسة مختارين من سجل نفوس التبانة ومختارين من سجل نفوس القبة طرابلس بهدف معاونة المحافظة في تكوين قيود سجلات حيّ جبل محسن". وتضيف الفقرة الرابعة على أن هذا التعيين يجب أن يتم من بين "المختارين السابقين من سكان حيّ جبل محسن أو من بين أوّل المرشّحين الخاسرين في الانتخابات الأخيرة" أي الانتخابات البلدية والاختيارية التي جرت سنة 2016.

وقد نصّت الأسباب الموجبة على أنّ التّمديد المُرتقب لولاية المجالس البلديّة والاختياريّة سيؤدّي إلى تمديد نتائج انتخابات 2016 التي وبحسب مقدّم الاقتراح "أحدثتْ خللًا في التمثيل الديمغرافي وأفرزت نتائج مجحفة استبعدت تمثيل الأقليات بما يتناسب مع حجمها الديمغرافي" لا سيما أن انتخابات 2016 حصلت "في أعقاب الشحن الطائفي التي تأسست عليه جولات القتال المشؤومة في طرابلس". وتضيف الأسباب الموجبة أن انتخابات 2016 أنتجت سلطة محلية ممثلة بالمجالس البلدية والاختيارية في طرابلس "تخالف ميثاق العيش المشترك المكرّس في الفقرة ي من مقدمة الدستور التي تنص على أنّه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". ويفهم من ذلك أن مقدّم الاقتراح يسعى إلى تصحيح غياب المخاتير من الطائفة العلوية.

وقبل المضيّ في عرض ملاحظاتنا على الاقتراح، يجدر التذكير بأن  العادة التي جرى العمل بها في الانتخابات البلدية في 1998 و2004 و2010 كانت تضمن حصول توافق بحيث يتمّ تخصيص أربعة مخاتير من الطائفة العلوية من أصل 12 مختارًا ينتخبون في حيّ التبانة. وقد جرى خرق هذا التقليد في انتخابات 2016 حيث لم يفزْ إلّا مختار علويّ واحد بالإضافة إلى خسارة الطائفة "ممثليها" في المجلس البلدي لمدينة طرابلس[1].

ومن أجل فهم خلفية هذا الاقتراح من كامل جوانبه، تجدر الإشارة إلى أن الثقل الديمغرافي للعلويين في طرابلس يتركّز في منطقة جبل محسن التي لا وجود إداري لها من الناحية القانونية. إذ أن التدقيق في الجدول المرفق بالمرسوم الاشتراعي رقم 11 تاريخ 29/12/1954 الخاص بالتقسيم الجغرافي لطرابلس (والذي عاد المرسوم الاشتراعي رقم 116 تاريخ 12/6/1959 ليؤكد عليه) أنّ مدينة طرابلس تتألّف من أحياء عدة، يفهم منها أن منطقة جبل محسن تتبع حيّ التبانة الأكثر كثافة من الناحية السكانية. وقد أشار الاقتراح في أسبابه الموجبة إلى هذا الخلل إذ أعلن "أن عدد سكان منطقة جبل محسن في طرابلس وفق لوائح شطب انتخابات 2022 بلغ 22874 ناخب منهم 17475 ناخب في محلة التبانة وحدها، أي أن جبل محسن في طرابلس يتجاوز عديده الأربعين ألف نسمة". وهو بذلك يلمّح إلى ذوبان الصوت العلوي في الأكثرية السنيّة.

وعليه، يهدف الاقتراح من خلال إنشاء حيّ جبل محسن، إلى إنهاء حالة التبعثر الديمغرافي للعلويين، وتمكينهم من انتخاب مختارين عنهم. ولا شكّ أنّ هذا المسعى جاء بعد سنوات من الشحن الطائفي خدمة لمصالح الأحزاب السياسية المسيطرة على مدينة طرابلس ممّا أدّى إلى تعزيز العصبية لدى شرائح واسعة من النّاخبين وخرْق التقاليد التي كانت محترمة في السابق والتي نجحتْ في تأمين تمثيل عادل لكافة المواطنين واحترام التنوع الطائفي والطبيعة التعددية لطرابلس.

 

إن هذا الاقتراح يستوجب الملاحظات التالية :

 

اقتراح ينطلق من اعتبارات طائفية مسكوت عنها

يعكس هذا الاقتراح أيضا ما سبق وأن شرحته المفكرة القانونية في مقال سابق حول التمثيل الطائفي في الانتخابات البلدية والاختيارية إذ أشارت أنه وعلى الرغم من الإلغاء القانوني لمبدأ التمثيل الطائفي في هذه الانتخابات منذ 1947 لكن الممارسة أبقت على هذا التوزيع في البلديات والأحياء المختلطة طائفيا إذ كان يتم التوافق على تأمين تمثيل لكل الطوائف في المجالس البلدية والاختيارية. إلا أنّه بنتيجة الأوضاع السياسية وبخاصة الحاصلة بعد مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري، تمّ تجاوز هذه التقاليد والأعراف التوافقية ما دفع قوى سياسية عدة إلى المطالبة بتقسيمات جديدة تضمن تمثيل المجموعات المختلفة. وإذ يندرج هذا الاقتراح ضمن هذه المطالب، يجدر التذكير باقتراحات القوانين المتصلة ببلدية بيروت، ومنها تقسيمها إلى أحياء ذات لون طائفي غالب.

والمستغرب أن الاقتراح لا يأتي على ذكر الطائفة العلويّة بشكل صريح بالرغم من أنّ كلّ منطلقاته وأهدافه تصبّ في خدمة صحّة تمثيل سكّان جبل محسن العلويين. ويظهر ذلك جليًّا في الأسباب الموجبة للاقتراح التي أعلنت أن "للمختار دور اجتماعي وقضائي وصحي وتنظيمي في مجتمع لا يزال ينتخب سلطته السياسية بناءً على أسس طائفية". وتعكس الأسباب الموجبة هذا المنطق الطائفي في نظرتها إلى كيفية تطبيق القانون في الدولة إذ تعتبر أن المختار الذي يلعب دورًا مساعدًا للضابطة العدلية ولدائرة التنفيذ سيكون على احتكاك مباشر مع المواطنين، الأمر الذي قد يخلق واقعًا حسّاسًا "إذا ما كان المختار من خارج نسيج المنطقة الاجتماعي".

 

اقتراح يضحى بحق انتخاب المخاتير

بالإضافة إلى ما تقدم، يجدر التنبيه إلى السابقة الخطيرة التي يرمي الاقتراح إلى إحداثها وقوامها إلغاء مبدأ الانتخابات لملء مراكز المخاتير المستحدثة واستبداله بالتعيين من قبل السلطة التنفيذية من دون أن يكون هنالك سببٌ جوهري يحتّم هذا التدبير الاستثنائي. إذ إن إلغاء مبدأ الانتخابات يتّسم بالخطورة أوّلًا لجهة نقضه الطابع الديمقراطي للسلطة وانبثاقها من الشعب وهو ما تكرّسه الفقرة "د" من مقدمة الدستور، بالإضافة إلى أنّه يدخل في إطار النهج المعتمد من قبل السلطة السياسية في لبنان في حرمان اللبنانيين من الانتخابات البلدية والاختيارية التي تمّ تأجيلها مرّتين منذ سنة 2016 ويرجح أن يتم إرجاؤها للمرة الثالثة في جلسة الغد. وعليه، وفيما ينطلق الاقتراح من أهمية ضمان التمثيل الطائفي للعلويين، فإنه ينتهي عمليا إلى ضمان تعيين مخاتير بإرادة وزير الداخلية.

لذلك كان بإمكان القانون المقترح، تجنّبًا لهذه المخالفة الخطيرة، أن ينص على إجراء انتخابات جزئية فور إنشاء حيّ جبل محسن في مهلة زمنية محددة، على أن تنتهي ولاية المختارين المنتخبين مع سائر المخاتير في لبنان.

 

إنشاء أحياء جديدة هي أصلًا صلاحية لمجلس الوزراء

ينص الاقتراح على تعديل الجدول رقم 1 الملحق بالمرسوم الاشتراعي رقم 116 الصادر سنة 1959 حول التنظيم الإداري ما يفهم منه أن إنشاء الأحياء الجديدة يدخل في صلاحيات مجلس النواب. لكن المادة الثالثة من قانون المختارين الصادر سنة 1947 تنص على التالي: "تعتبر الأحياء كما هي مسجلة في الاحصاء ولا يمكن إنشاء حي جديد أو إدغام حي بآخر إلا بقرار من وزير الداخلية" ما يعني صراحة أن صلاحية إنشاء الأحياء تعود لوزير الداخلية، وهي الصلاحية التي لا يزال يمارسها هذا الأخير حتى اليوم كما يظهر من القرارات الكثيرة المنشورة في الجريدة الرسمية والقاضية بإنشاء أحياء جديدة. 

لكن هذا النص الذي يسمح لوزير الداخلية بإنشاء أحياء جديدة من دون الحاجة إلى إقرار قانون جديد لم يعد يطبق على مدينة طرابلس كون المادة 38 من القانون رقم 665 الصادر في 29 كانون الأول 1997 نصت على التالي: "للحكومة بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية أن تزيد عدد الاحياء او عدد المختارين في المدن والأحياء الواردة في القانون الصادر بتاريخ 7 أيار 1949 وفي المرسوم الاشتراعي رقم 116 تاريخ 12/06/1959" . فقانون 7 أيار 1949 هو قانون خاص يتعلق بالانتخابات الاختيارية فقط في بيروت وطرابلس وبرج حمود إذ يقوم بتقسيم طرابلس إلى أحياء، ومن ثم يحدد عدد المختارين لكل حي.

وهكذا يتبين أن إنشاء حي جديد أو زيادة عدد المختارين في طرابلس يجدر أن يتم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، وهذا ما حصل فعلا بالمرسوم رقم 12036 الصادر في 4 نيسان 1998 والذي قضى بزيادة عدد المختارين في أحياء عدد من المدن اللبنانية بما فيها طرابلس.

وعلى الرغم من أن الاقتراح لم يتنبه لهذه النقطة لكنه يظلّ صحيحا من الناحية القانونية كون لا شيء يمنع من الناحية الدستورية أن يقوم مجلس النواب بإنشاء حي جديد بواسطة قانون على الرغم من التضارب الذي قد يحدثه هذا الأمر بين النصوص النافذة والاقتراح الجديد في حال إقراره.

 

صياغة غير دقيقة ومبهمة  

يعتري الاقتراح شوائب في صياغته القانونية لناحية أولا الأصول الشكلية في كتابة القوانين، وثانيا لجهة عدم الوضوح في أحد بنوده.

فمن ناحية الأصول الشكلية، لا يجوز استعمال صيغة إصدار القوانين التي يتم نشرها في الجريدة الرسمية كون صيغة الإصدار تتم إضافتها على القانون بعد اقراره في مجلس النواب وهي تدخل في صلاحيات رئيس الجمهورية. فالاقتراح يجب أن يتضمن المواد القانونية فقط بينما الاقتراح الحالي يبدأ بصيغة الإصدار المعهودة: "أقر مجلس النواب وينشر رئيس الجمهورية القانون التالي نصه" وهو أمر لا يستقيم إطلاقا من الناحية الدستورية كون مجلس النواب لا يحق له التصويت على صيغة الإصدار.

أمّا من ناحية عدم وضوح البنود، فإن البند الرابع من الاقتراح الذي ينص على تعيين المختارين من قبل وزير الداخلية يكتفي بالإشارة إلى أن تعيين المختارين يهدف إلى "معاونة المحافظة في تكوين سجلات حيّ جبل محسن" ما يمكن أن يفهم منه أنّ المختارين الذين سيتمّ تعيينهم ينحصر دورهم في معاونة المحافظة من دون ممارسة سائر صلاحياتهم العادية الذي ينص عليها القانون. لذلك كان من الأفضل على الاقتراح أن يوضح هذه المسألة عبر تخصيص بند من بنوده لتعيين المختارين وتخصيص بند آخر يمنحهم هذه الصلاحية الإضافية مع توضيح الإطار القانوني الذي يجب أن يتم من خلاله هذا التعاون: فهل المحافظة ملزمة بالحصول على موافقة المختارين المعينين أو يتوجب عليها فقط استشارتهم؟ وهل المحافظة حرة بالتنسيق مع كل مختار على حدة أو يتوجب عليها التعاون معهم كهيئة جماعية تتخذ قراراتها بأكثرية الأصوات؟ أسئلة لا يجيب عليها الاقتراح ما يجعله مفتقرا إلى الوضوح.

 

في الخلاصة، صحيح أن هذا الاقتراح يحاول تصحيح تمثيل منطقة جبل محسن وتمكين سكانها من المشاركة بفعالية أكثر في إدارة شؤونهم المحلية، لكنه في المقابل لا يضمن احترام التنوع السياسي داخل سكان حي جبل محسن كون وزير الداخلية يمكن أن يعمد إلى تعيين مختارين ينتمون إلى حزب سياسي واحد. فعلى الرغم من أن الاقتراح يلزم وزير الداخلية بتعيين هؤلاء من بين المختارين السابقين أو أول المرشحين الخاسرين، وهو أمر إيجابي كونه يحد من استنسابية سلطة الوزير، لكن ذلك لا يكفي لضمان التعددية السياسية داخل جبل محسن خصوصا أن انتخابات 2016 جرت من ضمن إطار سياسي لم يعد موجودًا اليوم بعد الانهيار الاقتصادي الذي شهده لبنان. وكان الأجدى بالاقتراح أن يحترم مبدأ الانتخاب بدل أن ينصّ على سابقة خطيرة هي تعيين المخاتير، بما يمسّ بحقوق المواطنين في اختيار ممثليهم المحليين.

 

للاطّلاع على اقتراح القانون

 


[1] "علويّو طرابلس يحتجّون: مختار لخمسين ألف نسمة!"، عبد الكافي الصمد، جريدة الأخبار، 2 حزيران 2016