تحوّل لافت في إدارة جلسات البرلمان: المجلس الدستوري يفرض التصويت بالمناداة
21/08/2025
سجّل المرصد البرلماني تغيّرًا لافتًا في أداء الهيئة العامّة لمجلس النوّاب في شأن التصويت على القوانين، في الجلسات التشريعية المنعقدة في 2025. تمثّل هذا التحوّل تحديدًا في قبول رئاسة المجلس مطالب النوّاب بإجراء المناداة وخصوصًا فيما يتّصل باقتراحات ومشاريع القوانين التي ثمّة حرص على تحصينها إزاء أي طعن دستوري.
يأتي هذا التطوّر تبعًا لقرار المجلس الدستوري رقم 1/2025 في تاريخ 7/1/2025 بإبطال القانون رقم 327/2024، وهو القانون الذي أعاد إحياء ولاية أعضاء مجلس القضاء الأعلى ومدّد سنّ تقاعد القاضييْن علي إبراهيم وجمال الحجّار. وقد صدر القرار في إطار طعون تقدّمت بها أربع مجموعات من النوّاب، أبرزها الطعن الذي أعدّته “المفكرة القانونية” و”نادي قضاة لبنان” بالتعاون مع النائبة حليمة القعقور. ولئن أعاد المجلس في هذا القرار التأكيد على قرارٍ سابق بوجوب إجراء التصويت على القوانين بالمناداة عملًا بالمادة 36 من الدستور، فإنّه وسّع سلطته الرقابية لتشمل التحقّق من تقيّد البرلمان فعليًا بها. فعلى الرغم من تأكيد إدارة مجلس النوّاب في المحضر المنظّم منها، إجراء التصويت بالمناداة، طلب المجلس الدستوري من المجلس النيابي إيداعه تسجيلات الجلسة وخلص بعد التدقيق فيه إلى عدم صحّة محتوى المحضر في هذا الخصوص، ممّا شكّل بحد ذاته سببًا لإبطال القانون كونه لا يجسّد الإرادة العامّة.
ورغم أهمّية هذا التطوّر، سجّل “المرصد” في مراقبته للجلسات أنّ المناداة لا تتمّ بصورة تلقائية كتتمّة للمسار التشريعي، إنّما فقط عند مطالبة نوّاب باعتمادها في التصويت على قانون بعينه. كما سجّل قلقه من التعامل معها كمجرّد إجراء شكلي، على نحو يناقض الغاية منها المتمثّلة في ضمان الديمقراطية التمثيلية. وهذا ما سنحاول إبرازه في هذا المقال انطلاقًا من أهم ما رصدْناه في الجلسات التشريعية المنعقدة بعد قرار المجلس الدستوري في هذا الخصوص. وقبل القيام بذلك، يجدر التذكير بما كانت الممارسة عليه من قبل.
ما قبل القرار: رفض مبدأ المناداة
وثّق المرصد البرلماني في سياق متابعته للجلسات التشريعيّة رفض رئيس المجلس النيابيّ المنتظم إجراء التصويت بطريقة المناداة، رغم مطالبات متكرّرة من النواب. وغالبًا ما ترافق رفضه مع تعابير تنمّ عن تنمّر أو استهزاء أو ضيق صدر بأقلّ تقدير.
ولعلّ القانون الذي أبطلهُ المجلس الدّستوري كان خير مثال على هذه الممارسة، وفق ما وثّقه تقرير المرصد البرلماني حول نتائج الجلسة. فلئن طرح برّي القانون المذكور على التصويت برفع الأيادي، كان جليًّا أنّ عدد رافعي الأيدي لا يتخطّى أصابع اليد الواحدة. إلّا أنّ برّي صدّق الاقتراح من دون النظر إلى من صوّت أو عدّ الأصوات أصلًا، عملًا بما اعتاد عليه. حينها، اعترضت النائبتان بولا يعقوبيان وحليمة القعقور مطالبتيْن بمعرفة النتيجة الفعلية للتصويت، كما طالبتا بإجراء التصويت أصولًا أي بالمناداة. وإذ أصرّت يعقوبيان على مطلبها مؤكّدة أنّ 5 نوّاب يثنون عليه سندًا للنظام الداخلي، أجابها برّي حرفيًا “لو 50 نائب ما بدّي”، ليقرّ الاقتراح من بعدها من دون أن يعرف أيّ من الحاضرين من صوّت معه أو ضدّه.
الأمر نفسه تثبّت منه المجلس الدستوري بعد تدقيق في التسجيل الصوتي لمناقشة هذا الاقتراح والتصويت عليه. فقد جاء في قراره حرفيًّا أنّ المناداة التي لجأ إليها رئيس المجلس بطلب من عدد من النوّاب إنّما “اقتصرت على تلاوة أسماء نوّاب لا يتعدّى عددهم 12 من دون انتظار إبداء موافقتهم أو رفضهم”، قبلما يسمع “صوت رئيس المجلس يقول: صُدّق”. وهنا يتابع المجلس الدستوري أنّ اعتراضات عدّة “تلت ذلك وقد سُمعت أصوات تسأل عن مصير القانون وتطالب بنتيجة التصويت بالمناداة”.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المرصد البرلماني كان وثّق في سياق الجلسة نفسها تغيّر سلوك برّي في هذا الشأن بعد دخول مندوب الرئيس الفرنسي جان إيف لودريان إلى شرفة المجلس النيابي لمتابعة وقائع الجلسة. فعند انتهاء مناقشة الاقتراحات المتعلّقة بالتمديد لقائد الجيش، قرّر برّي من تلقاء نفسه التصويت بالمناداة، اسمًا اسمًا، مسجّلًا حدثًا نادرًا في تاريخ البرلمان اللبناني على شرف المندوب الفرنسي الذي شهد بذلك على إدارة ديمقراطية للجلسة مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه من سلطوية وتعسّف قبل وصوله.
وقد شكّل توثيق أحداث هذه الجلسة بحدّ ذاتها دليلًا بليغًا على إخلال برّي بقواعد إدارة الجلسات التشريعية. وهذا ما قد شهد تطوّرًا وإن كان ما يزال غير كاف بعد صدور القرار الدستوري رقم 1/2025 كما نبيّن أدناه.
ما بعد القرار: المناداة عند الطلب؟
كما سبق بيانه، فتح قرار المجلس الدستوري الباب أمام إبطال أيّ قانون يُطعن فيه ما لم يتمّ مراعاة طريقة التصويت بالمناداة فعليًّا. وقد أكّدت مراقبة الجلسات التشريعية أنّه كان لهذا القرار أثر تغييريّ على أصول التصويت على مقترحات القوانين، وإن يبقى هذا التطوّر غير كافٍ.
وبالفعل، وثّق “المرصد” في الجلسة التشريعية الأولى عقب القرار، التوجّهات الآتية:
- إجراء التصويت بالمناداة ليس تلقائيًا إنّما نزولًا عند طلب نائب أو أكثر. وقد بدا رئيس المجلس في مجمل هذه الحالات وكأنّه تخلّى عن ممانعته الاعتيادية في هذا المجال. وقد حصل ذلك بشأن التصويت على مشروع قانون رفع السرّية المصرفية وأيضًا عند التصويت على مشروعيْ قانون المناطق الاقتصادية أو زيادة مساهمة لبنان في صندوق النقد. وقد أدّى أحيانًا التصويت بالمناداة إلى تغيير نتيجة التصويت الحاصل برفع الأيادي. وهذا ما سجّل بشكل خاص في شأن المقترح الأخير. فبعدما كان سقط برفع الأيدي، طالبت النائبة حليمة القعقور بالمناداة ممّا أدّى إلى إعادة فتح النقاش وتقرير تأجيل البت فيه.
- إجراء التصويت بالمناداة تلقائيًّا كتتمّة للمسار التشريعي. وهذا ما سجّلناه بشأن عدد قليل من مقترحات القوانين، وتحديدًا المقترحات الرامية إلى تسوية أوضاع أفراد في الأسلاك العسكرية.
- إجراء التصويت برفع الأيدي حصرًا كما حصل بشأن مقترحات قانون العمل المرن أو المقترحات المتعلّقة بالهيئة التعليمية في المدارس الخاصّة والموازنة المدرسية، ولم يسجّل أي اعتراض على التصويت عليها على هذا الوجه أو أي مطلب بالتصويت بالمناداة.
- وإلى جانب هذه التوجّهات الثلاثة، برز توجّه رابع انبنى على اجتهاد خاص من نائب رئيس المجلس الياس بو صعب وهو اجتهاد يخشى أن يتحوّل إلى قاعدة. تمّ هذا الأمر في سياق التصويت على مقترح قانون إتاحة المجال لمصرف لبنان إصدار أوراق نقدية جديدة. فلئن طلبت النائبة القعقور التصويت عليه بالمناداة، اجتهد بو صعب بقوله إنّه “توفيرًا للوقت ونظرًا إلى عدم وجود اعتراض، يكون التصديق برفع الأيدي”.
ويجدر التنبيه هنا إلى أنّه لئن شكّل إجراء التصويت بالمناداة ضرورة لضمان الديمقراطية التمثيلية والحدّ من الفوضى التشريعية، فإنّه يبقى إجراءً غير كافٍ. وهذا ما سجّله “المرصد” على هامش التصويت على مشروع القانون بإدخال تعديلات على قانون السرّية المصرفية، حيث تمّ التصويت أحيانًا من دون معرفة النوّاب على ماذا يصوّتون بالمناداة. وهذا ما عكسه تصريح النائب جميل السيّد بعد انسحابه من الجلسة: “أعلن الانسحاب من الجلسة لعدم احترام النظام”، وأيضًا تصريح النائب جبران باسيل: “هيدا مش تشريع مش عم نصوّت، ما فهمنا شو صار لا بالدقائق ولا بالمفعول الرجعي”. وكانت النائبة بولا يعقوبيان طالبت بتلاوة المواد بشكل واضح حتّى لا يُعاد ما حصل سابقًا من تعديل في صياغة القوانين، وقد استجاب رئيس الجلسة (بو صعب) لطلبها بخصوص أحد البنود (المادة الثالثة) دون سواها.
التطوّر نفسه لمَحناه في جلسة 30/6/2025 التشريعية، حيث تمكّنت النائبتان حليمة القعقور وبولا يعقوبيان في غير مرّة من فرض التصويت بالمناداة على المجلس النيابي، علمًا أنّ برّي لم يلجأ مطلقًا إلى هذه الآلية خلال الجلسة إلّا بعد مطالبته بها. وقد اختلفت تطبيقات المناداة من بندٍ إلى آخر: فلئن حصلت المناداة بالنسبة إلى مشروع القانون بإجازة الاقتراض من البنك الدولي لحاجات الطاقة المتجددة، فإنّ تطبيقها في موضوع المنحة لصندوق تعاضد القضاة حصل بصورة مختلفة. إذ على الرغم من فرض المناداة فيها، إلّا أنّ تلاوة أسماء النوّاب كانت تتمّ بسرعة ومن دون أن يتسنّى للعديد منهم إبداء آرائهم أو لإدارة المجلس تدوينها، الأمر الذي عكس تشويهًا لمبدأ المناداة والغاية المرجوّة منها وتحويرًا لها من ضمانة للديمقراطية التمثيلية إلى مجرّد إجراء شكلي. ففي حين يهدف التصويت بالمناداة إلى تمكين النوّاب من إبداء مواقفهم من التشريعات المطروحة بصورة علنية واضحة وتوثيق مواقفهم، فإنّ تحقيق هذه الغاية بدا مستحيلًا على ضوء السرعة المكوكية في القفز من مناداة نائب إلى مناداة آخر.
نشر هذا المقال في العدد 74 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان