اقتراح لمنح المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور: حلّ خاطئ لتشخيص صحيح
25/10/2025
تقدم عشرة نواب في العقد العادي (أي وفقا للشروط التي تفرضها المادة 77 من الدستور) هم حليمة القعقور، ميشال معوض، وليد البعريني، إبراهيم منيمنة، وضاح الصادق، مارك ضو، شربل مسعد، بلال الحشيمي، ياسين ياسين، ميشال الدويهي بتاريخ 23 تشرين الأول 2025 باقتراح قانون دستوري من أجل إضافة فقرة إلى المادة 19 من الدستور اللبناني وفقا للنص التالي: "تناط صلاحية النظر بطلبات تفسير الدستور بالمجلس الدستوري دون سواه. ويعود حق طلب التفسير إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء أو إلى عشرة أعضاء من مجلس النواب".
وقد بررت الأسباب الموجبة الاقتراح بأن المجلس الدستوري يمارس رقابته على دستوريّة القوانين ومن الطبيعي إذا أن يتمتع بصلاحية تفسير الدستور "لا سيما أن المجلس النيابي يضم أحزاباً ومجموعات سياسية مختلفة الآراء والاتجاهات ولكل منها رأي وتفسير يتناسب مع هذه التوجهات، مما يصعّب ويمنع عملياً تفسير الدستور وفق منطق متجرّد وعلمي، ويسمح في المقابل بتقديم تفسيرات تختلف وفقاً لتقلب المصالح والأهواء، بحيث يصبح الدستور خاضعاً كلياً لنظام المحاصصة والتوافق السياسي القائم في لبنان، ما يجرده من قدسيّته ويفصله الفعلية ويعزز سلطة الطبقة الحاكمة، الأمر الذي يخلّ بمبدأ سمو الدستور".
وتضيف الأسباب الموجبة أنّ "المبدأ الذي يحكم تفسير النصوص القانونية، هو أن السلطة التي تصدر القانون هي المخولة تفسيره، مبدأ غير صحيح كون تفسير الدستور من قبل السلطة التشريعية ينطوي على نوع من التبديل. فعندما يجتمع المجلس النيابي لتفسير المواد الدستوريّة، فإنّ هذا التفسير هو عمل علمي ونقاش عامّ غير ملزم خارج المجلس النيابي. أما إذا فرضنا أن مجلس النوّاب قرر تفسير الدستور عبر إقرار قانون يفرض تفسيراً معيناً للدستور أو أحد مواده، فإن هذا القانون يمكن الطعن به أمام المجلس الدستوري الذي سيتولى حينها "تفسير التفسير" لمراقبة ما إذا كان هذا القانون هو مخالف للدستور أم لا. أي أن هذه الصلاحية هي في أصلها من صلاحية المجلس الدستوري".
وتستعرض الأسباب الموجبة مجموعة من قرارات المجلس الدستوري التي تثبت صلاحية هذا الأخير بتفسير مواد الدستور كي تختم بأن هذه المهمة تحتاج إلى خبرات علمية لا تتوفر في غالبية أعضاء مجلس النواب لا سيما وأنه تبين من "خلال الممارسة العملية الحاجة الماسة إلى تفسير بعض مواد الدستور بغية توضيح مقاصد المشرع وتحديد آلية وكيفية تطبيق هذه المواد، ومنها على سبيل المثال المواد المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية ومدى صلاحية امتناع الوزراء عن التوقيع على المراسيم التي يصدرها رئيس وأثرها على مجلس الوزراء ووقعها رئيس الجمهورية والحكومة، وسواها من المواد الواردة في الدستور".
إن هذا الاقتراح يستلزم الملاحظات التالي:
اقتراح يستعيد حرفيا ما كتبته المفكرة القانونية
لا يمكن للمفكرة القانونية إلا أن توافق على ما ورد في الأسباب الموجبة لجهة عدم صلاحية مجلس النواب بتفسير الدستور بشكل ملزم، وضرورة اعتبار أن المجلس الدستوري هو من يتولى تفسير الدستور في معرض رقابته على دستورية القوانين. فقد اقتبست الأسباب الموجبة حرفيا ما شرحته المفكرة القانونية سابقا في مقال مخصّص لشرح مفهوم تفسير الدستور. وبالتالي على القارئ العودة إلى المقال المذكور من أجل شرح مدى خطورة منح مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور والمسوغات التي تجعل من المجلس الدستوري الجهة الصالحة لإعطاء التفسير الأصلي للمواد الدستورية.
وقد تبنى المجلس الدستوري صراحة هذا التوجه في قراره رقم 6 تاريخ 30 أيار 2023 حين أعلن موافقا كل النقاط التي دافعت عنها دائما المفكرة القانوني التالي: “وحيث إنّ صلاحية تفسير الدستور لم تُنط بالمجلس النيابي بنصّ صريح، وبالتالي في غياب النصّ الدستوري يقتضي العودة إلى المبادئ الدستورية العامة التي ترعى التفسير الأصلي الذي يرتّب مفعولاً ملزماً تجاه السلطات كافة. وحيث إنّه ينبغي إتّباع أصول تعديل الدستور في معرض التفسير، عملاً بمبدأ موازاة الصيغ، فيقتضي مراعاة إجراءات التعديل كاملة التي نصّ عليها الدستور ولا سيما منها الأكثرية الموصوفة المطلوبة لسنّ قانون دستوري بهذا الخصوص، وسوى ذلك غير ملزم للسلطات الدستورية الأخرى ولا يرتّب مفاعيل تجاهها ولا سيّما تجاه المجلس الدستوري في صدد مراقبة دستورية القوانين. وحيث إن تصاريح ومواقف النواب والكتل النيابية خارج إطار الأصول المشار إليها أعلاه لا ترقى إلى مرتبة التفسير الملزم للدستور وإن كان الإدلاء بها حاصلاً تحت قبّة البرلمان وأثناء انعقاد الهيئة العامة”.
خطورة تحويل المجلس الدستوري إلى محكمة عليا
لا شكّ أن المبادئ التي ينطلق منها الاقتراح هي سليمة كونها ترفض فكرة تخويل مجلس النواب تفسير الدستور نظرا للاعتبارات السياسية التي تطغى على عمل هذا الأخير. لكن منح المجلس الدستوري "دون سواه" صلاحية تفسير الدستور دونه محاذير لا يمكن تجاهلها وهي تعكس عدم فهم الاقتراح للنظام القانوني للدولة اللبنانية.
فالمجلس الدستوري يقوم بتفسير الدستور عند ممارسته لاختصاصه سواء كان في معرض رقابته على دستورية القوانين أو رقابته على دستورية الانتخابات الرئاسية، أي أنه يستطيع أن يقدم التفسير النهائي ويكون بالتالي ملزما لسائر السلطات كونه يحسم النزاع في المسألة المعروضة أمامه بغض النظر عن القيمة العلمية لقراراته ومدى موافقة الفقهاء عليها.
وإذا كانت الرقابة على دستورية القوانين تخص المجلس الدستوري وحده لكن تفسير الدستور ليس صلاحية حصرية لهذا الأخير كون السلطات القضائية الأخرى، لا سيما مجلس شورى الدولة ومحكمة التمييز، يحق لها أيضا في معرض ممارستها لصلاحياتها تفسير الدستور. لا بل أن السلطات الدستورية الأخرى في كل مرة تعمد بها إلى تطبيق مادة من مواد الدستور تكون في الحقيقة تقوم بتفسير الدستور.
وهكذا يتبين أن منح المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور بمفرده قد يجعل منه محكمة عليا وفقًا للنموذج القائم في الولايات المتحدة الأميركية بينما لبنان يعتمد النظام الفرنسي الذي يفصل بين القضاء العدلي والإداري والدستوري. فالسماح للجهات نفسها التي يحق لها مراجعة المجلس الدستوري طعنا بالقوانين من أجل تفسير الدستور يعني أن المجلس بات سيعالج كل المواضيع الدستورية المحتملة، لا سيما وأن الاقتراح لا يقول بضرورة تقديم طلب تفسير مادة معينة من الدستور بل يكتفي بالقول طلب "تفسير الدستور" بشكل مطلق، ما يعني إمكانية طلب تفسير مواد تتعلق حصرا بالسلطة التنفيذية وهي أمور من المفترض أن ينظر بها مجلس شورى الدولة كونه السلطة المولجة النظر في مشروعية الأعمال الإدارية.
كذلك التفاسير التي سيتخذها المجلس الدستوري لن تصدر في معرض طعن بقانون معين، ما يعني أن هذا التفسير سيتّسم بالإطلاق وبطبيعته الشاملة، الأمر الذي يجعله ملزما بشكل حرفي للقضاءين الإداري والعدلي ما يعزز من احتمال تحول المجلس الدستوري إلى محكمة عليا. فهل من حلّ في حال تعارض اجتهاد مجلس شورى الدولة بشأن توقيع المراسيم مثلا مع تفاسير المجلس الدستوري؟ ما العمل في حال اختلف اجتهاد محكمة التمييز مثلا حول الحصانات النيابية والوزارية مع تفسيرات المجلس الدستوري؟
وما يزيد من الخلل هو أن طلب التفسير محصور بالجهات السياسية التي ستعمد إلى إغراق المجلس الدستوري بطلبات ما يجعل من هذه الصلاحية الجديدة وسيلة لتصفية الحسابات مع الخصوم. لكن الاقتراح لا يشرح أيضا كيفية ممارسة المجلس الدستوري لصلاحياته التفسيرية: فهل يحقّ له التقدم بطلب لتفسير مادة سبق للمجلس الدستوري أن فسرها؟ هل أن التفسير الذي يمارسه المجلس الدستوري في معرض رقابته على دستورية القوانين يختلف من حيث حجيته عن التفاسير المطلقة عملا بصلاحيته الجديدة؟
في الخلاصة، يتبين أن الاقتراح ينطلق من مبادئ سليمة وهو في الحقيقة ردة فعل على اعتباطية التفسيرات السياسية التي حولت الدستور إلى مجرد وجهة نظر من أجل خدمة المصالح السلطوية لمختلف أحزاب السلطة. لكن هذا الواقع لا يمكن معالجته عبر تبنّي نصوص دستوريّة جديدة لأن حتى التفاسير التي يعتمدها المجلس الدستوريّ لن يتمكن من فرضها على الجهات السياسية التي ستستمر في لعبة التأويل، لا بل أن المجلس الدستوري قد يصبح أكثر عرضة للانتقاد بسبب اضطراره إلى اتخاذ مواقف متزايدة تخص مسائل سياسية بامتياز ما يفقده حصانته المعنوية ويفاقم من تهشيم صورته بسب الانقسام السياسي الحاد الذي يطبع الحياة السياسية في لبنان. فالتشخيص الصحيح الذي قام به الاقتراح للواقع الدستوري في لبنان يحتاج أولا إلى حلّ سياسي يضمن احترام مبادئ دولة القانون وليس إلى حل سحري عبر نصوص قانونية إضافية تصب في مصلحة الجهات الحاكمة التي ستجد في الجدل حولها وسيلة لإضفاء شرعية دستورية على كيفية ممارستها للسلطة السياسية.