أحجية المجلس الدستوريّ بشأن الإيجارات والمدارس الخاصّة: تفسيراتٌ مختلفة برسم رئاسة الجمهوريّة والحكومة
21/05/2025
في تطور مفاجئ، أصدر المجلس الدستوري بتاريخ 20 أيار 2025 القرار رقم 5 المتعلق بالطعن بالقانون النافذ حكما رقم 1 الصادر في 3 نيسان 2025 والمتعلق بالإيجارات للأماكن غير السكنية. كذلك أصدر المجلس الدستوري القرار رقم 4 المتعلق بالطعن بالقانون النافذ حكما رقم 2 الصادر في 3 نيسان 2025 المتعلق بتنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة وتنظيم الموازنة العامة.
وقد خلص المجلس الدستوري في القرارين إلى النتيجة نفسها إذ اعتبر أن هذه القوانين غير نافذة لأن “إجراءات إصدار القانون لم تراعََ أصولا، ولم تنقضِ مهلة الشهر الممنوحة لرئيس الجمهورية لإصداره، الأمر الذي يجعل نشر القانون المطعون فيه مخالفا لأحكام المادة 57 من الدستور طالما أن القانون لم يكن قد أصبح نافذا حكما في تاريخ النشر”.
وهكذا يتبين أن المجلس الدستوري لم يعالج مضمون هذه القوانين بل اقتصر على دراسة الأصول الدستورية المتعلقة بإصدار القانون، وهذا ما أشار إليه عندما أعلن أنه يعود له في معرض رقابته على دستورية القوانين أن ينظر “في عيوب عدم الدستورية التي قد تشوب أصول التشريع المنصوص عليها في الدستور”.
وقد ذكر المجلس بالفوضى التي رافقت إصدار تلك القوانين عندما رفض رئيس مجلس الوزراء السابق نجيب ميقاتي نشرها. وكان مجلس الوزراء قد اتّخذ في 19 كانون الأول قرارا بإصدارها وكالة عن رئيس الجمهورية ومن ثم عاد واتخذه قرارا ثانيا بتاريخ 12 كانون الثاني 2024 بإعادة القوانين إلى مجلس النواب من أجل إعادة النظر بها. وتبعا للطعن المقدم على هذا القرار الأخير، اتّخذ مجلس شورى الدولة قرارا بوقف تنفيذ مراسيم الردّ، الأمر الذي دفع رئاسة الحكومة الطلب من مجلس النواب بتاريخ 3 حزيران 2024 استرجاع تلك القوانين من أجل نشرها. إلا أنّ الأمانة العامّة للمجلس النيابيّ لم تستجبْ لهذا الطلب إلا في 28 آذار 2025، وقد سارعت الحكومة بعد ذلك إلى نشرها بعد اعتبارها نافذة حكمًا ما يعني أنها صدرت من دون توقيع رئيس الجمهورية.
ولا شك أن أكثر ما يلفت النظر في هذين القرارين هو طبيعتهما المقتضبة إذ لم يدخل المجلس الدستوري في تفاصيل هذه القضية الشائكة التي ما زالت تتوالى فصولا. فقد أحجم المجلس مثلا عن معالجة مدى دستورية القرار الاعتباطي الذي اتخذه حينها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالتمنّع عن نشر القوانين. كذلك لم يتطرق إلى طبيعة قرارات مجلس الوزراء وفيما إذا كانت نافذةً بذاتها أو يتطلب ذلك اقترانها بمرسوم من أجل معرفة مدى جواز العودة عن قرار الإصدار، وهي إشكاليات أشارت إليها جميعها المفكرة القانونية في المقالات التي خصصتها من أجل متابعة هذا الموضوع.
وهكذا اكتفى المجلس الدستوري بترداد مواقفه السابقة حول جواز التشريع في ظل الشغور الرئاسي ووجود حكومة مستقيلة “طالما أن صلاحيات الرئاسة تمارس وكالة من قبل مجلس الوزراء (…) وإنه يتوجب على مجلس الوزراء الانعقاد بوكالته عن رئيس الجمهورية وأخذ القرار بشأن إصدار القانون وفق الآليات الدستورية المعتمدة لعقد الجلسات واتخاذ القرارات”.
ولعلّ أبرز ما في القرار هو الجانب المضمر فيه بخصوص تاريخ بداية سريان مهلة الشهر الدستورية لاعتبار القوانين نافذة في حال لم تصدرها الجهة الصالحة. فقد اعتبرت المقدمة التي كتبتها المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء والتي سبقت نشر تلك القوانين في الجريدة الرسمية أن هذه القوانين قد أحيلت للمرة الأولى إلى رئاسة الحكومة بتاريخ 18 كانون الأول 2023 ولم تصدر ضمن مهلة الشهر الدستورية ما يوجب تنفيذا لأحكام المادة 57 من الدستور اعتبار هذه القوانين نافذة حكما وواجبة الإصدار “بصيغتها الأصلية الموقعة كما وردت من الأمانة العامة لمجلس النواب”. وهكذا يتبين أن المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء اعتبرت أن المهلة الدستورية تنصرم من تاريخ الإحالة الأولى التي حصلت في كانون الأول 2023 بينما المجلس الدستوري اعتبر أن هذه المهلة لم تنصرم، عندما تم نشر القوانين كونها بدأت مجددا من تاريخ الإحالة الثانية التي تمت في 28 آذار 2025. إذ أنّ إعادة القوانين في هذا التاريخ الجديد “لم يقترن بقرار جديد يقضي بإصداره مجدّدا بعدما سبق لمجلس الوزراء السابق أن رجع عن قرار الإصدار، علما أن مجلس الوزراء فقد الصلاحية المنصوص عليها في المادة 62 من الدستور مع انتخاب رئيس الجمهورية”.
وهكذا خلص المجلس الدستوري إلى أن الإصدار لم يتم “ولم تنقضِ مهلة الشهر الممنوحة لرئيس الجمهورية لإصداره” ما يحول دون النظر في “دستورية قانون لم تكتمل عناصر تكوينه في تاريخ نشره” ما يجعله غير نافذ، ما يعني أن المجلس الدستوري لم يقرر إبطال تلك القوانين التي لا تزال في عداد القوانين الصحيحة التي أقرها مجلس النواب وهي تنتظر أن يتم إصدارها وفقا للدستور من أجل نشرها ودخولها حيز النفاذ.
لكن قرار المجلس الدستوري يشوبه الغموض كونه قد يحتمل تفسيرا مغايرا للتفسير الأول المقدم أعلاه. ففي حين يقول المجلس أنّ المهلة الدستورية لم تنقضِ “في ظل قرار وقف تنفيذ قرار مرسوم إعادة القانون”، فإنه يضيف لاحقًا أنّ عدم مراعاة إجراءات الإصدار يعني أنّ مهلة الشهر الممنوحة لرئيس الجمهورية لإصداره لم تنقضِ. وهنا تبرز الإشكالية: هل قصد المجلس الدستوريّ القول أن رئيس الجمهورية لا يزال متمتّعا اليوم بحقّه بإصدار القانون أم أنه أراد القول أنه كان لا يزال متمتعا بهذا الحق عندما تم نشر هذه القوانين في الجريدة الرسمية وهو ما ينسجم مع التفسير الأول. وإن كان لا يزال متمتعا بهذا الحق، متى تنتهي المهلة الدستورية التي بعدها يصبح القانون نافذا حكما في حال لم يصدره رئيس الجمهورية؟
ومن الظاهر أن التفسير الثاني لقرار المجلس الدستوري يلقي الضوء على قرار رئاسة الحكومة بنشر القوانين بتاريخ 3 نيسان 2025 عندما استعادتها من مجلس النواب للمرة الثانية. فهذا النشر بعد اعتبار القوانين نافذة حكما منع رئيس الجمهورية إصدارها من ضمن مهلة الشهر الجديدة التي بدأت في 28 آذار 2025، ما يسلط الضوء مجددا على المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء كون مصلحة الجريدة الرسمية تابعة لها إداريا. فلئن منح الدستور رئيس الجمهورية صلاحية إصدار القوانين “وطلب نشرها”، فإن الممارسة السليمة كانت تقتضي تدخل رئيس الجمهورية عندما تم استرجاع تلك القوانين من مجلس النواب بحيث يعود له تفسير صلاحياته بالإصدار إما عبر اعتبار مهلة الإصدار لم تنتهِ ويحق له بالتالي توقيع القوانين أو أن هذه المهلة انتهت ما يوجب اعتبار القوانين نافذة حكما وواجبة النشر. وعلى الرغم من أن القرار النهائي يعود إلى المجلس الدستوري عندما ينظر في الطعن إذ سيقدر مدى موافقة تفسير رئيس الجمهورية للدستور، لكن هذا لا يمنع أن المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء لا يعود لها من تلقاء نفسها استخلاص النتائج الدستورية لاستعادة القوانين من مجلس النواب كون هذا الأمر يدخل في صميم الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية أي لسلطة دستورية قائمة بذاتها، بينما المديرية العامة المذكورة هي سلطة إدارية أوجدها القانون ولا يمكن لها أن تحلّ إطلاقا مكان السلطات الدستورية وهو الأمر الذي بات يحصل بحكم الممارسة من دون التنبه له.
وهكذا يتبين أن موقف المجلس الدستوري لم يعالج المقدمات القانونية التي أوصلتنا إلى هذه الفوضى الدستورية. لذلك بات هذا الموقف يتأرجح بين النتائج التالية:
- النتيجة الأولى تعتبر أن مهلة الإصدار انطلقت في 28 آذار 2025 وهي انتهت في 28 نيسان 2025، ما يعني أن إصدار القانون حكما ونشره في الثالث من نيسان هو مخالفة لصلاحية رئيس الجمهورية بإصدار القوانين خلال مهلة شهر ما يجعل هذه النصوص غير نافذة. إلا أن انتهاء مهلة الاصدار في هذه الحالة في 28 نيسان إنما يعني أن القوانين باتت نافذة حكما ما يحتم نشرها مجددا في الجريدة الرسمية كي تصبح نافذة. وهذا ما حصل سنة 2014 بخصوص قانون الإيجارات السكنية عندما رفض الرئيس ميشال سليمان توقيعه وانتظر انتهاء المهلة لكن مصلحة الجريدة الرسمية قامت بنشره قبل يوم من انتهاء المهلة الدستورية ما دفع المجلس الدستوري حينها إلى إعلان عدم نفاذ القانون كون النص “نُشر في تاريخ لم يكن فيه القانون الذي أقره مجلس النواب قد أصبح نافذاً حكماً بموجب الفقرة الأخيرة من المادة 57 من الدستور (…) ما يحول دون النظر في دستورية قانون لم تكتمل عناصر تكوينه في تاريخ نشره، وهو بالتالي غير نافذ” (قرار رقم 5 تاريخ 13 حزيران 2014). وبالفعل أعيد نشر القانون مرة ثانية في الجريدة الرسمية عملا بقرار المجلس الدستوري المذكور.
- النتيجة الثانية أن مهلة الاصدار لا تزال سارية ما يسمح لرئيس الجمهورية بإصدار القانون علما أن هذه الفرضية مستغربة كون بدء مهلة الإصدار غير معلومة ما يعني أن انتهاء هذه المهلة هي أيضا غير معلومة ولا يمكن بالتالي معرفة متى ستصبح هذه القوانين نافذة حكما.
- النتيجة الثالثة ومفادها أن مهلة الاصدار معلقة بانتظار القرار النهائي لمجلس شورى الدولة وهو ما توحي به العبارة التي استخدمها المجلس الدستوري بقوله أنّ المهلة لم تنقضِ “في ظل قرار وقف تنفيذ قرار ومرسوم إعادة القانون” علما أن المجلس أيضا أعلن أن مراسيم إعادة القوانين تم إيقاف تنفيذها بشكل مؤقت “لحين إصدار قرار نهائي في هذا الشأن عن مجلس شورى الدولة” ما يفهم منه أنه لا يمكن البتّ بمهلة الإصدار وإذا ما انقضت إلا بعد صدور قرار مجلس شورى الدولة النهائي. لكن حتى القرار النهائي لمجلس شورى الدولة قد يعيد إثارة الإشكالية من جديد. ففي حال قرر هذا الأخير أن مراسيم الردّ هي دستوريّة، فإن هذا يعني أن القوانين كان يجب أن تظل في مجلس النواب كي يصوت عليها مجددا. أما إذا قرر إبطال تلك المراسيم، فإن هذا يعني أنّ القوانين كانت لدى الحكومة طوال الفترة الماضية.
ففي الحالة الأولى، أيّ نشر للقوانين يحصل في الجريدة الرسمية سيكون مخالفا للدستور. أما في الحالة الثانية، فنصل إلى نتائج غير معلومة: إذ أن إبطال مراسيم الردّ سيدفع مجلس شورى الدولة إما إلى اعتبار أن مهلة الإصدار قد انصرمت ما يوجب نشر القوانين في الجريدة الرسمية أو أن يجتهد ويعلن أن مهلة الإصدار ستبدأ من جديد من تاريخ قرار مجلس شورى الدولة. وحقيقة الأمر أن الفوضى في هذه القضية تفاقمت مع قرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ مراسيم الردّ. وهذه نتيجة كان على هذا الأخير أن يتوقعها عندما وافق على النظر بمراسيم تدخل في نظرية أعمال الحكومة، وهي نظرية وجدت خصيصا لمنع الوصول إلى هكذا فوضى دستورية.
ولا تقف الفوضى عند هذا الحد بل هي مرشحة للتوسع لأن المجلس الدستوري أعلن عدم نفاذ قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية وقانون الهيئة التعليمية فقط بينما مشكلة مراسيم الرد كانت أيضا تتعلق بقانون ثالث هو قانون يتعلق بصندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة الذي نشر كالقانون النافذ حكما رقم 3 في الجريدة الرسمية مع القانونين الاخرين لكن لم يتم الطعن به. فهذا القانون الثالث هو في وضعية دستورية متطابقة بالكامل مع القوانين التي أعلن المجلس الدستوري عدم نفاذها ما يطرح تساؤلات جدية حول مصيره. والحل الوحيد الذي يمكن للحكومة أن تعتمده هو سحب الإصدار الذي تم عندما اعتبر القانون نافذا حكما وجرى نشره في الجريدة الرسمية على اعتبار أن هذا الإصدار لم يكن صحيحًا (promulgation irrégulière) وهو الحل الذي جرى في الجمهوريّة الثالثة في فرنسا عندما أصدر رئيس الجمهورية قانونًا تبيّن لاحقًا أنه لم يتمّ تبنّيه بصيغة واحدة من قبل مجلسي الشيوخ والنواب الأمر الذي دفع برئيس الجمهورية إلى إصدار مرسوم بسحب مرسوم الإصدار الأول[1].
ويشار هنا إلى أنّ القوانين النافذة حكمًا لا يوجد فعليّا مرسومٌ بإصدارها، إذ هي تنشر خالية من أيّ توقيع ما يوجب اعتبار أن الإصدار بات حكميا علما أن الدستور يتكلم فقط عن النفاذ الحكمي من دون تحديد أن الإصدار يتم حكميا ما يدفع إلى الاعتقاد بعدم وجود إصدار أصلا عندما يعتبر القانون نافذا حكما (وهذه من النتائج العجيبة للدستور كما جرى تعديله سنة 1990).
ومن الأمور التي برزت في هذه المعمعة الدستورية هو الجانب المادي لمفهوم إحالة القانون أو استرجاعه. فالقوانين كما تبين لا يمكن أن توجد من الناحية الدستورية لدى الحكومة أو لدى مجلس النواب إلا إذا كانت موجودة ماديا عبر “النسخة الأصلية الصالحة الموقعة للنشر” أي النسخة التي وقعها رئيس مجلس النواب عندما أحالها إلى الحكومة للإصدار. فالمديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء لم تتمكن من نشر تلك القوانين إلا بعد حصولها على النسخة الأصلية، كذلك الأمر اعتبر المجلس الدستوري أن القوانين استعادتها الحكومة عندما أرسلتها الأمانة العامة لمجلس النواب بنسختها الأصلية الموقعة. وبالتالي فإن هذه النسخة الأصلية الموقعة هي اليوم في عهدة الحكومة بانتظار قرار مجلس الشورى الدولة النهائي.
في الخلاصة، يتبين أن موقف المجلس الدستوري اقتصر على إعلان عدم نفاذ القوانين لكنه لم يحسم مصيرها الفعلي. وقد يستشفّ منه أنه ينتظر قرار مجلس شورى الدولة النهائيّ في الطعون المقدّمة ضدّ قرار الحكومة بردّهما إلى المجلس النيابيّ، من أجل تفادي التضارب بين المجلسيْن. وقد يصعب توقّع النهاية في أقوى المخيّلات الدستوريّة بفعل تداخل عوامل عدّة أبرزها الآتية: القرار الاعتباطي للرئيس السابق نجيب ميقاتي الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية، موافقة الحكومة السابقة على الرجوع عن إصدار القوانين، قرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ مراسيم هي أعمال حكومية، المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء التي نصبت نفسها كسلطة يمكن لها تفسير الدستور لجهة نفاذ القانون ونشره، التعديلات التي أدخلت على الدستور سنة 1990 بجعل القوانين نافذة حكما من دون إصدار. إنّ تضافر هذه العوامل وضعت المجلس الدستوري في موقف شديد التعقيد ولا يحسد عليه فجاء قراره مقتضبًا ومبهمًا ما يعني أن هذه القضية بعد أكثر من سنة من اندلاعها مرشحة لمزيد من التطوّرات التي تزيد من الشقاق بين المصالح المتضاربة في المجتمع. إنها من دون شكّ قصة عجيبة في تاريخ لبنان الدستوري إن لم تكن أكثرها غرابة تضع أشد العقول الدستورية حدّة في حيرة من أمرها.
[1] Gaston Jèze, la promulgation des lois, Revue de droit public et de science politique en France et à l’étranger, Tome XXXV, Janvier-Février-Mars 1918, Paris, p. 388.