موازنتا 2023 و2024: الطبقات الفقيرة والمتوسطة وحدها تدفع ثمن الانهيار

إيلي الفرزلي

19/09/2023

انشر المقال

لا يخجل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من الإشادة بنفسه بعد إنجاز مشروع موازنة 2024 ضمن المهلة الدستورية. وهو لا يمكن أن يكون قد نسي أنه أقر مشروع قانون موازنة 2023 منذ شهر فقط، أي بعد نحو عام من الموعد الدستوري وقبل 4 أشهر فقط من نهاية العام. ولا يمكن أن يكون قد نسي أنه لم يرفق الموازنة الحالية أو السابقة بقطع الحساب، وهو موجب دستوري لا يقل أهمية عن الموازنة نفسها. التباهي بتطبيق الدستور بشكل جزئي لم يقابله خجل أو اعتذار عن مخالفته. 

حتماً يدرك ميقاتي أن الدولة التي يقود حكومتها التي أسماها "معاً للإنقاذ" لم تتوقّف عن الغرق منذ استلم الدفّة. ما يستطيع فعلاً أن يُفاخر به بين أقرانه من أصحاب السلطة والمال أنه استطاع أن ينأى بهم عن الغرق أسوة بسائر الشعب اللبناني. "اغرقوا لوحدكم" هو الشعار الأدق لمرحلة ميقاتي مع كل ما تضمنته من حماية مطلقة للمصارف ومصالحها بحجة حماية القطاع المصرفي من التجاوزات القضائية. ولذلك، لم يتردّد في إضافة مادة إلى موازنة 2023 تعفي الأغنياء أنفسهم، وهو على رأسهم، من الضريبة على الأرباح في الخارج. وحتى إن أُعلن التراجع عنها تحت ضغط الاعتراض عليها (بالرغم من أن البند 26 لا يزال جزءاً من المشروع الذي أحيل إلى مجلس النواب)، من دون أن يتضح بعد إن كانت ستمر مواربة. كما لم يتردّد، في موازنة العام 2024، في المزايدة على ما تضمنته موازنة 2023 من ضرائب ورسوم غير عادلة تطال الأغلبية الساحقة من الناس بشكل مباشر، وتعفي أصحاب الأموال من الضرائب. 

يضاف إلى ذلك آن موارنة 2023 تضمنت بنداً خطيراً قد يؤدي إلى التفريط بأملاك الدولة الخاصة، بموجب المادة 34 التي تسمح بتأجير أملاك الدولة لمدة طويلة قد تصل إلى 18 سنة (النص الحالي يسمح بالتأجير لمدة 4 سنوات فقط) (المادة 60 من القرار رقم 275 الصادر في 1926/25). 

الضرائب ترتفع 640% 

هكذا ببساطة وجد ميقاتي الحلّ في حشر الأغلبية الساحقة من الناس أمام زيادة كبيرة في الضرائب والرسوم بما ينذر بمزيد من الخراب مقابل السعي المستميت إلى البحث عن إيرادات خزينة ولو كان عن طريق سرقة الناس لكن ليس كل الناس… الطبقات الفقيرة والمتوسطة منهم فقط. هذا ما يتّضح من خلال تكثيف الضرائب المباشرة (أبرزها الضريبة على القيمة المضافة وضريبة الدخل التي تقتطع تلقائياً من الموظفين)، لتصل إلى نحو 70% من إجمالي الضرائب التي تتضمّنها الموازنة، في مقابل 30% فقط للضرائب غير المباشرة (أبرزها الضريبة على الأرباح التي يسهل التهرّب منها)، لتكون النتيجة تحميل تلك الطبقات كلفة مسعى الحكومة لإنقاذ نفسها من العجز في الموازنة. علماً أن هذا الأمر تطرق له البيان الأخير لصندوق النقد الدولي عبر الإشارة إلى أنه "يجب تجنب منح تفضيلات لبعض دافعي الضرائب على حساب الآخرين". في المادة 66 من موازنة 23 تلك، رُفع رقم الأعمال الخاص بالمكلّفين بالضريبة على القيمة المضافة إلى ملياري  ليرة (22000 دولار) بعدما كان 100 مليون ليرة (66.7 ألف دولار). وهذا يقود إلى تكليف أغلب  الشركات الصغيرة توسيع قاعدة المكلفين لم تُبنََ على دراسة لمعرفة تأثيرها الاقتصادي ولا ربطت بخطة تنوي الحكومة تنفيذها، ما يهدد بعواقب كبيرة على المستهلكين الذين سيشهدون زيادة إضافية في الأسعار، وعلى الأعمال الصغيرة التي سيتوجب عليها مسك حساباتها والتصريح عن أرباحها ما يزيد من أعبائها وتكاليفها ويُعيق نموّها.

لكن مع كل التغوّل في فرض الضرائب المقدّرة في الموازنة ب 259 ألف ملياراً، والتي ارتفعت 640% عن الموازنة التي سبقت (30 ألف مليار ليرة)، والتي قد تنخفض بشكل طفيف بسبب التراجع عن زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 12%، لم تنجح الحكومة في إطفاء العجز بل حافظت على معدّل يقارب 42 ألف مليار ليرة ومن المتوقّع أن يرتفع في النسخة النهائية التي يفترض أن تُحوّل إلى مجلس النواب، والتي للمناسبة لم تنجز وزارة المالية التعديلات عليها بعد.

وعليه، بعدما كان يُفترض أن تكون موازنة 2022 موازنة أرقام على أن تكون الموازنة التي تعقبها موازنة إصلاحية، كانت النتيجة أن موازنتي 23 و24 لم تقربا الإصلاح بأي شكل، بل كانت وظيفتهما جمع المال بأي ثمن حتى لو من خلال تحميل أغلبية الناس مسؤولية السياسات الكارثية التي أوصلت إلى الأزمة وتستمر في تعميقها. ولذلك لا يتردد النقيب السابق للمحاسبين أمين صالح في وصف الموازنة الحالية بأنها جريمة ضد الإنسانية لأنها "تستهدف عمداً إلحاق الضرر بفئة محددة من الناس وتجبرهم على العيش بالفقر لفرضها ضرائب ورسوم لا طاقة لأحد على تحملها". فيما يصفها المحامي كريم ضاهر بالموازنة العقابية التي تهدف إلى معاقبة الناس من خلال تحميلهم أعباء ضريبية لا يمكن تحملها، ومن دون أن يحصلوا، في المقابل، على أي من حقوقهم. فلا التعليم مؤمّن ولا الطبابة والكهرباء ولا النقل العام. هكذا ببساطة، تريد الحكومة أن تقول للمواطن أنه مطالب بكل شيء من دون أن يحصل على أي شيء في المقابل.

اللاعدالة متجذرة في الموازنة أسوة بكل الموازنات التي سبقت. وبالرغم من كل المناشدات والمطالبات بتطبيق الضريبة الموحدة على الدخل، وبالرغم من وجود اقتراحات قوانين ودراسات بهذا الشأن، على الأقل منذ العام 2010، إلا أن ميقاتي لا يبدو أنّه سمع بأيّ منها، وهو لمّا اكتشفها مؤخراً أعلن عن تأليف لجان برئاسة نائب رئيس الحكومة لوضع مشروع قانون ضريبة الدخل الموحدة، مشروع تعديل قانون المحاسبة العمومية، إعادة هيكلة القطاع العام والمؤسسات العامة، هيئة لتحقيق وتنسيق ووضع المعايير لأنظمة المعلوماتية في الدولة اللبنانية، إصلاح الجمارك وضبط التهرب من التسجيل في الضريبة على القيمة المضافة، والضريبة على السلع الفاخرة. ولأن الاكتشاف يبدو مهماً بالنسبة لرئيس الحكومة فقد أعلن أن هذه القوانين ستصدر "في أسرع وقت".

هل تقر موازنة 24 بمرسوم؟

إلى ذلك الحين، وإلى حين إصدار القوانين الإصلاحية التي يطالب بها ميقاتي أيضاً، فإن مجلس النواب سيكون للمرة الأولى أمام موازنتيْن يفترض أن يبتّ بهما. لكن لجنة المال والموازنة حسمت أمس موقفها برفض مناقشة موازنة 2023، انطلاقاً من أنها تشريع لصرف الجباية في سنة شارفت على الانتهاء. فما صرف قد صرف وما جبي قد جبي. وبحسب ما رشح عن جلسة أمس، فقد تقرر مطالبة الحكومة بإحالة مشروع موازنة 2024 إلى مجلس النواب، متضمّناً الرؤية الإنقاذية والإصلاحية المطلوبة، وأي بند أو مادة تعتبرها الحكومة أساسية من ضمن مشروع موازنة 2023 أو من خارجها، إذا كان الوقت يسمح لها بذلك في الأيام القليلة المقبلة، أو من خلال النقاش الذي سيتم في لجنة المال والموازنة أو الهيئة العامة. علماً أن وزير المال يوسف خليل الذي كان حاضراً في الجلسة لم يعترض على ذلك، مبدياً استعداد الحكومة لإجراء التعديلات اللازمة على مشروع موازنة 2024".

اللافت أن رئيس اللجنة ذكّر بأن "المادة 86 من الدستور تنطبق على مشروع موازنة 2024 إذا ما أحيل من ضمن المهلة الدستورية، لجهة استطاعة الحكومة إصدارها بمرسوم إذا لم يبتّ بها المجلس النيابي. وكان هذا الاحتمال أحد أبرز حوافز إرسال الحكومة للمشروع ضمن المهلة الدستورية، إذ أن استمرار رفض عدد من الكتل مناقشة أي مشروع مرسل من الحكومة قد ينعكس على مشروع الموازنة، ما يفتح الباب أمام إمكانية إصدار الموارنة من دون موافقة المجلس. 

يحذّر النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة أمين صالح، في هذا السياق، من عدم إقرار موازنة 2023، على مساوئها، معتبراً أن الاكتفاء بموازنة 2024 سيزيد من حجم الكارثة. فتلك الموازنة تتضمن على الأقل بعض التنزيلات والشطور الضريبية التي عدلت وأعطيت الحكومة حق تعديلها مجدداً استناداً إلى نسب التضخم الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي (المادة 17)، وإن كانت تشكل بداية ضرب المكلّفين الصغار، من دون أن تُعبّر بدقة عن الوضع المالي للدولة. علماً أن صندوق النقد كان اعتبرها "لا تعكس بدقة النطاق الحقيقي للعجز والتمويل النقدي المرتبط به". وفي حين دعا الصندوق إلى أن تكون ميزانية عام 2024 المقترحة متسقة مع عملية توحيد سعر الصرف، التي بدأ بها مصرف لبنان، إلا أن موادّها لا تعبّر عن هذا التوجه الذي توحي به الحكومة نفسها. فكل من المواد 26 و55 و58، على سبيل المثال، تتضمّن آلية احتساب مختلفة لسعر الصرف. 

في الموازنة تلك تحاول الحكومة إعطاء نفسها صلاحيات غير مخوّلة بها دستورياً. فبالرغم من أن الدستور ينصّ في المادتين 81 و82 على أن الرسوم تُحدّد بقانون، إلا أن الحكومة تجيز لنفسها تعديل القيمة التأجيرية ومضاعفة الغرامات ووضع رسم على النفايات وإعادة فرزها. 

البحث عن الأموال أعمى الحكومة إلى درجة تشريعها الرشوة في القطاع العام من خلال ابتكار رسم للخدمات السريعة. كان يمكن لهذا الرسم أن يكون إيجابياً لو أن الإدارة تعمل بشكل سليم أو لو أن المواطنين يحصلون أصلاً على الخدمات. لكن بهذا الشكل وفي ظل إدارة منهارة وموظفين تحولت رواتبهم إلى فتات ستتحول هذه الخدمة إلى الخدمة الوحيدة المتوفرة ما يؤدي إلى صعوبة حصول غير القادر على دفعها على الخدمات الرسمية. 

هيركات 60% على الودائع القديمة

الأكثر إشكالية في المشروع الحكومي هي المادة 22 في موازنة العام 24. من دون أي خطة وأي دراسة ومن خارج كل القوانين الإصلاحية التي يفترض أن تدرس في مجلس النواب تعمد الحكومة إلى تشريع "هيركات" على أموال المودعين يصل إلى 60%، بحيث يتمكن هؤلاء من دفع بعض الرسوم من حساباتهم المحتجزة في المصارف لكن على أساس 40% من سعر الدولار على منصة صيرفة. 

أما المادة 23 التي أفتت بإنهاء سيادة العملة الوطنية من خلال السماح بجباية مروحة واسعة من الرسوم والضرائب بالدولار بما فيها رسوم الكهرباء، فقد أعلن رئيس الحكومة التراجع عنها لا لأسباب وطنية أو علمية بل لأن "صندوق النقد الدولي نصح بأن تبقى الواردات بالليرة اللبنانية، لأنه عندما تدخل الواردات إلى المصرف المركزي فهو يشتري الدولارات بطريقة منظمة أكثر من العشوائية التي تنتج عن شراء المواطن الدولارات لدفع ضريبة". وفيما لم يُعرف فعلياً حجم التغيير والصيغة التي رست عليها هذه المادة بانتظار صدور النسخة النهائية من المشروع، إلا أن كريم ضاهر يحذّر من أن هذه الموازنة دولرت الرسوم والضرائب بالفعل، وهذه الدولرة وصلت إلى الضريبة على القيمة المضافة التي يسميها المشروع "رسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد". 

البحث عن الإيرادات لم يترك باباً إلا وطرقه في موازنة الـ24. على سبيل المثال، يشير صالح إلى: 

- زيادة متوقعة في رسوم الانتقال تصل 2900%. ففي موازنة العام 2022، كانت العائدات أقل من 5000 مليار ليرة فكيف وصلت إلى 164 مليار. 

- الإيرادات المتوقع الضريبة على القيمة المضافة ارتفعت من 5577 مليار ليرة في العام 2022 إلى 90 ألف مليار ليرة. 

- الرسوم العقارية كانت تساوي 1061 مليار ليرة في العام 2022 ووصلت  في تقديرات الموازنة الأخيرة إلى 30 ألف مليار ليرة (بزيادة 1727%). 

- الضريبة على الأرباح التي اعتاد الأثرياء التهرّب منها، فبعدما زيدت في موازنة العام 2023 نحو 40% فقط زيدت في الموازنة الأخيرة 479%. 

- بقيت الأملاك البحرية مستباحة من قبل السلطة وأزلامها بشكل شبه مجاني، إذ لم تزد إيرادات هذه الأملاك عن 26 مليون دولار (2550 مليار ليرة) على ما يظهر في جداول الإيرادات، علماً أن هذه الإيرادات وردت تحت بند: "إيرادات ناتجة عن تسوية الأملاك البحرية". يفهم من ذلك أن الإيرادات المذكورة لا تشمل رسوم إشغال الأملاك البحرية من دون أن يعلم إذا تم لحظها فعليا ضمن إيرادات الموازنة أم لا. 

- خدمة الدين المحددة  بـ 14500 مليار ليرة، فلا أحد يعرف إلى أي ديون تذهب في ظل عدم توفر أي بيانات من وزارة المالية.

باختصار، موازنتا العامين 2023 و2024 اللتين يتم التعامل معهما على أنهما موازنة واحدة هما تأكيد على استمرار السلطة في نهج تحميل مجمل الناس المسؤولية عن الانهيار مقابل رفض الشروع بأي من الإجراءات الإصلاحية القادرة على وقف النزيف، لأن أياً من هذه الإجراءات سينعكس ضررا على سلطة المال والسياسة أو بشكل أدق على أصحاب المصارف المساهمين والمودعين الكبار. وعلى ما يقول وزير مالية أسبق لا يزال يقدم خدمات استشارية لبعض من في السلطة أحياناً: كلما طال الوقت من دون معالجة الأزمة وتداعياتها كلما زاد الوضع سوءاً بالنسبة للناس لكن كلما كان أفضل بالنسبة للدولة والمصارف التي تطفئ خسائرها من دون أي إجراءات قاسية عليها. مرّت 3 سنوات على تسيّد هذه العقلية ولا يزال الوضع على ما هو عليه.