ماذا يعني أن يفشل "الدستوري" في بتّ الطعن بتمديد ولاية مسؤولين أمنيين؟

وسام اللحام

01/02/2024

انشر المقال

في تطور لا يمكن أن يوصف بالمفاجئ، فشل المجلس الدستوري بالتوصل إلى قرار ضمن المهل القانونية حول الطعن المقدّم ضدّ ما بات يعرف بقانون التمديد لقائد الجيش الصادر في 21 كانون الأول 2023 بعد خلاف سياسي كبير بين أركان السلطة الحاكمة. وقد نظم المجلس الدستوري بتاريخ 31 كانون الثاني 2024 محضرا بالوقائع عملا بالمادة 37 من القانون المتعلق بالنظام الداخلي للمجلس التي تنص على التالي:" إذا لم يصدر القرار ضمن المهلة القانونية، يكون النص ساري المفعول وينظم محضر بالوقائع".

وقد شرح المجلس الدستوري في هذا المحضر أنه "لم يتوصل لإصدار قرار بقبول الطعن أو برده لعدم تأمين الأكثرية المطلوبة، أي سبعة أصوات في أيّ من الاتجاهين" على الرغم من أنه عقد سبع جلسات بين 16 و31 كانون الثاني 2024 انتهت جميعها بالفشل وعدم صدور قرار بشأن القانون المطعون فيه ما يجعله "مقبولا" وفقا أيضا للمادة 21 من قانون إنشاء المجلس الدستوري الصادر سنة 1993. 

وهذه ليست المرة الأولى التي يضطر فيها المجلس الدستوري إلى تنظيم محضر كونه لم يتمكن من التوصل إلى قرار. ففي حال وضعنا جانبا المحاضر الثلاثة التي تم تنظيمها في 8/7/2009 كون المجلس الدستوري بين 2005 و2009 لم يتمكن من الانعقاد بسبب مقاطعة جلساته من قبل نصف أعضائه ما أدى إلى تعطيل عمله وعدم قدرته على النظر بالطعون في دستورية القوانين ضمن المهل القانونية، نلاحظ أن فشل المجلس في التوصل إلى قرار حصل مجددا في 21/6/2013 عندما عجز عن البتّ في دستورية قانون التمديد لمجلس النواب بسبب مقاطعة ثلاثة أعضاء لجلسات المجلس ما أفقده نصابه القانوني (ثمانية من أصل عشرة أعضاء وفقا للمادة 11 من قانون انشاء المجلس الدستوري). وتكرّر الأمر مجددا في 21/12/2021 عندما تعذر تأمين أكثرية سبعة أعضاء للبت في القانون المتعلق بقانون الانتخابات والذي كان أثار خلافا سياسيا حادّا حينها بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري.

وهكذا يتبين أن فشل المجلس الدستوري في القيام بدوره بات ظاهرة متكررة عندما يتعلق الأمر بنزاع سياسي بين مختلف أركان السلطة. فبين 2005 و2009 شنّت قوى السلطة حملة تشكيك بشرعية المجلس الدستوري الذي انتهت نصف ولاية أعضائه من دون أن يتمّ تعيين بديل عنهم ما دفع بهؤلاء إلى رفض المشاركة في جلسات المجلس ما أدّى إلى شلّه ومنعه ليس فقط من النظر في الطعون بدستورية القوانين بل أيضا من البتّ في الطعون النيابية التي تم التقدم بها بعد انتخابات 2005.

وفي سنة 2013 توافق أركان السلطة على التمديد لمجلس النواب عبر إقرار قانون لا شك في انعدام دستوريته. وعندما تبين أن المجلس يتجه لقبول الطعن بالقانون وإبطال التمديد قرر ثلاثة من أعضائه يدورون في فلك جهات سياسية محددة مقاطعة جلسات المجلس مّن أجل إفقاد نصابه ومنعه من اتخاذ القرار بقبول الطعن وكسر التوافق السلطوي للجهات السياسية المسيطرة على مجلس النواب.

وفي سنة 2021 كذلك فشل المجلس من اتخاذ قرار بشأن تعديل قانون الانتخابات النيابية ليس بسبب فقدانه لنصابه هذه المرة لكن لتعذر تأمين غالبية سبعة أصوات التي يفرضها القانون ما أدى إلى إجراء انتخابات 2022 النيابية وفقا لأحكام قانون مطعون في دستوريته.

ولا شك أن قانون التمديد لقائد الجيش يندرج في السياق ذاته بسبب طبيعته السياسية والخلاف الكبير الذي رافق إقراره. فالنصاب الذي يفرضه القانون لانعقاد المجلس (حضور ثمانية أعضاء على الأقل) والأكثرية المشددة لصدور القرارات (سبعة أعضاء على الأقل) يجعلان المجلس الدستوري ضحية التوافق ويمنحان الأقلية قدرة تعطيلية يسهل استغلالها من أجل حماية المصالح السياسية للجهات التي تملك قدرة تأثير على المجلس. وقد تفاقم هذا الأمر سنة 2006 عندما تم تعديل المادة 12 من قانون إنشاء المجلس الدستوري من أجل فرض أكثرية سبعة أصوات ليس فقط في الطعون الدستورية بل أيضا في الطعون النيابية التي كانت سابقا تحتاج فقط إلى الأكثرية النسبية من الأعضاء الحاضرين، ما يعني أن التوافق بات ينسحب أيضا على الطعون الانتخابية برمتها.

وما يفاقم من خطورة هذا الوضع هو أن المحاضر التي جرى تنظيمها منذ 2013 تتعلق بقوانين يوجد شكّ كبير في مدى دستوريتها، إذ أن الطعون كانت مبنية على أسباب جدية لا يمكن تجاهلها. وهذا ما يتضح من الطعن الحالي بقانون التمديد لقائد الجيش الذي سنناقشه باختصار كون عدم صدور قرار عن المجلس الدستوري حرمنا من التعليق على مضمونه لجهة تحديد دستورية هكذا قانون استثنائي.

لا شك أن الجزء الأول من الطعن كان ضعيفا، إذ استند إلى عدم جواز التشريع في ظل الفراغ في رئاسة الجمهورية، ليس فقط لأن هذا السبب سبق وأن رده المجلس الدستوري الذي أعلن في قرار له جواز ممارسة مجلس النواب لصلاحياته التشريعية في ظل خلو سدة الرئاسة بل أيضا لأن الطعن قام بشتويه رأي الفقيه الفرنسي الكبير "دوغي" إذ أورد التالي: "أمَّا بخصوصِ رأي الفقيهِ الفرنسيِّ الآخر ليون دي غي Léon DUGUIT، فيلفِتُ مناصرو اتجِّاهِ رفضِ التشريع في حالةِ شغورِ موقعِ الرئاسةِ إلى أنه على الرغمِ من أنه أكَّدَ احتفاظ البرلمان في حقِّه في التشريعِ فِي أثناءِ خلوِّ الرئاسةِ، إلَّا أنَّ المبرِّراتِ التَّي قَدّمها لدعمِ  موقفِهِ تَعني التشريعَ في حالةِ الضرورةِ، وليس في المطلقِ، حيث أشارَ إلى أنه في فترةِ الشغورِ، "يُمكِنُ أن تنشأ أزمة خطيرة تسَتدعي التصويتَ على تدابيرَ تشريعية تتّخِذ طابعَ الاستعجالِ". وقد أساء الطعن فهم موقف دوغي لا بل هو قام بتأويله بشيء من التعسف. فدوغي لم يقلْ أنه لا يجوز التشريع إلا في حالة الضرورة بل على العكس قال أن الحكومة يمكن لها أن تتقدم بجميع أنواع المشاريع وأن البرلمان يمكن أن يصوت عليها جميعها لا سيما وأن فترة الشغور الرئاسي قد تكون ناجمة عن ظرف استثنائي يحتاج إلى اتخاذ تدابير طارئة[1]. وهكذا يتبين أن دوغي لم يعتبر إطلاقا أنه لا يجوز التشريع إلا عند الضرورة بل قال بإمكانية مناقشة وإقرار أي قانون كان خاصة في فترة خلو سدة الرئاسة التي من غير المتوقع أن تحصل بشكل مفاجئ إلا في ظروف خطيرة تحتم تفعيل عمل المؤسسات لحماية الدولة والمجتمع.

لكن الجزء الثاني من الطعن المخصص لدراسة مضمون القانون استند على حجج قوية تثبت بشكل مقنع جدا أن التمديد لقائد الجيش وسائر القادة العسكريين والأمنيين يخالف جملة من المبادئ الدستورية التي يشرحها الطعن وفقا للتالي:

  • انتهاك القانون لقاعدة التجرد والعمومية وتفصيله على قياس أشخاص: وقد شرح الطعن هذا السبب قائلا أنّ القانون المطعون فيه "خصّ شخصاً من فئة الضباط الذين عددتهم المادة 56 من قانون الدفاع الوطني، وشخصاً واحداً من ضباط قوى الأمن الداخلي، وشخصاً واحداً من ضباط الأمن الأمن العام"، حاجباً أحكامه عن جميع الضباط الآخرين وعن رؤساء الأجهزة الأمنية الآخرين إذا لم يكونوا من العسكريين  "كما حجب أحكامه عن رؤساء الأجهزة الأمنية العسكريين مستقبلاً حتى ولو كانوا برتبة عماد أو لواء ما دام أنه جاء بصورة استثنائية واشترط أن يكون المستفيد يمارس وظيفته في تاريخ صدور القانون المطعون فيه". ما يعني أن القانون المطعون فيه "استهدف ثلاثة أشخاصاً بالذات، وتحديداً قائد الجيش الذي تنطبق عليه وحده صفة العماد، ولم يكن ينقص القانون إلا أن يسمّي هؤلاء الثلاثة بأسمائهم". 
  • مخالفة القانون لمبدأ المساواة الدستوري: يتبين أن التمديد حصرا لأشخاص محددين هو تمييز فاضح بين المواطنين كونه حصر "الاستفادة برؤساء الأجهزة الأمنية يشكل بذاته استثناءً على قاعدة المساواة بين الضباط، ومن ثمّ أتى حصر الاستفادة بالعسكريين من بين رؤساء الأجهزة الأمنية والعسكريّة (دون المدنيين) ليشكّل استثناءً على الاستثناء وهو أمر ممجوج في علم التشريع. وبما أنّ القانون المطعون فيه لم يأتِ لصالح جميع الضباط، لا بل لم يأتِ لصالح جميع رؤساء الأجهزة الامنية والعسكريّة، إذ استبعد المدنيين وكذلك حاملي رتبة عميد من بينهم، كما لم يأتِ لصالح جميع حاملي رتبة لواء، بل فقط من يتولى قيادة جهاز أمني أو عسكري".
  • مخالفة مبدأ فصل السلطات بحيث حلّ مجلس النواب محلّ السلطة التنفيذية المتمثلة بمجلس الوزراء الذي يمنحه الدستور الصلاحية الحصرية بتعيين جميع موظفي الدولة المدنيين والعسكريين. فقانون التمديد "هو بمثابة تعيين"، كونه "أتى لمدّة سنة تنطلق بالنسبة إلى كلّ من القادة الثلاثة انطلاقاً من بلوغه السن القانونية، أي بتاريخ يختلف عن الاثنين الآخرين، فتبدأ بالنسبة إلى قائد الجيش اعتباراً من 10 كانون الثاني 2024، وبالنسبة إلى مدير عام قوى الأمن الداخلي في شهر أيار 2024، وبالنسبة إلى مدير عام الأمن العام بالإنابة في شهر كانون الأول من سنة 2024، وهو ما يمنع الادعاء بأنّ مدة السنة هي مدة الظرف الاستثنائي المزعوم، إذ لا يعُقَل أن تختلف مدّة الظرف الاستثنائي في البلاد، بين قائد جهاز أمنيّ وآخر تبعاً لتاريخ ولادته".
  • عدم وجود ظرف استثنائي: نص القانون أن التمديد يتم بصورة استثنائية بينما لا وجود لظروف استثنائية تبرر التمديد لقادة الأجهزة العسكرية والأمنية إذ لا يمكن التذرع بفشل مجلس الوزراء عن القيام بدوره في التعيين بسبب الخلافات السياسية بين أعضائه كي يحل مجلس النواب مكان السلطة الدستورية المختصة. علاوة على أن الحديث عن ظرف استثنائي بالنسبة إلى بلوغ قائد الجيش السن القانونية لا موجب له "لأنّ ذلك معروف سلفاً منذ لحظة تعيينه منذ نحو ستّ سنوات، كما أنّ ثمة فاصلاً زمنياً قائماً بين تاريخ إقرار القانون وبلوغ قائد الجيش السن القانونية، عدا عن أنّ تأمين البديل بالتكليف أو بالوكالة أو بالأصالة متاح، وأحد هذه الخيارات على الأقل أكيد، كما أنَّ مدير عام قوى الأمن الداخلي يبلغ السن القانونية بعد نحو ستة أشهر من تاريخ إقرار القانون المشكو منه، ومدير عام الأمن العام يبلغ السن القانونية بعد نحو سنة وبضعة أيام من تاريخ إقرار القانون المشكو منه، فأين هو الظرف الاستثنائي"

جراء ما تقدم يصبح جليا أن الطعن كان يستند إلى مبررات قوية جدا ما يفسر عجز المجلس الدستوري عن القيام بواجبه بسبب الأكثرية المشددة لاتخاذ أي من قراراته. فالطبيعة التوافقية لقرارات المجلس الدستوري تظهر بشكل جلي عند معالجته لقوانين حساسة سياسيا، إذ يمكن لنا تحديد اتجاهين عمد المجلس إلى اتباعهما من أجل الخروج من مأزق ضرورة حسمه لخلاف سياسي بمنطق دستوري:

  • عدم صدور قرار كما شرحنا أعلاه، والاكتفاء بتنظيم محضر بسبب غياب النصاب أو تعذر تأمين الأصوات المطلوبة.
  • إعلان أن القانون المطعون فيه مخالف للدستور لكن وجود "حالة شاذة" تفرض القبول بتلك المخالفة للمحافظة على مصالح الدولة العليا.

إن فشل المجلس الدستوري اليوم في البتّ بقانون التمديد لقائد الجيش يعكس كيفية عمل النظام السياسي اللبناني الذي يقبل بمنطق القانون والمؤسسات فقط عندما لا تكون مصالحه مهددة بالخطر أو أي انتقاص بينما يتم تعليق الدستور، واستطرادا القانون، عندما يتعلق الأمر بقرار سياسي يخص أركان السلطة المهيمنة على الدولة والمجتمع. فالقانون يطبق على المواطنين العاديين وفي الظروف العادية بينما لا يمكن تطبيقه في "الظرف الاستثنائي" الذي تنفرد أحزاب الزعماء بتحديده وفقا لمصالحها السلطوية.


[1] « Jusque-là il y a des chambres législatives. Si elles sont en session, elles peuvent s’assembler suivant le droit commun, recevoir et voter des propositions. II y a un gouvernement parfaitement régulier, qui peut faire des propositions de toute espèce, qui peut prendre part aux délibérations du parlement (…) en fait, il est inadmissible que les chambres ne puissent pas pendant la durée de la vacance, recevoir et voter des propositions. Il peut y avoir là une période de crise grave, exigeant le vote de mesures législative d’une extrême urgence; et l’on ne saurait admettre que les pouvoirs soient en quelque sorte désarmés » (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel,  Tome 4, paris, 1924, p. 565-566).