اقتراح من أجل تكريس المناصفة في بلديّة بيروت: هل ضرورات العيش المشترك تبرر الاحتكار السياسي؟

نيقولا غصن

17/04/2025

انشر المقال

تقدّم بتاريخ 16 نيسان 2025 نواب من كتلة لبنان القوي هم نقولا صحناوي وسليم عون وسامر التوم وشربل مارون وفريد البستاني وجبران باسيل باقتراح قانون معجّل مكرر يرمي إلى "تعديل بعض أحكام قانون الانتخابات البلديّة"، نصّ في البند الأوّل من مادته الوحيدة على اعتماد اللوائح المقفلة "في جميع البلديات المشار إليها في المادة 11 من القانون رقم 29/63"، على أن يجري الاقتراع "لصالح اللائحة المقفلة كما هي دون تعديل أو حذف أو إضافة" وعلى أن "تحتسب النتائج على أساس مجمل الأصوات التي تنالها كلّ لائحة". أمّا البند الثاني من الاقتراح فتطرّق إلى موضوع بلديّة بيروت فنصّ على أنّ الانتخابات فيها تجرى على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وأنّ "يراعى هذا التوازن في تشكيل اللوائح" ، وذلك "وفقًا لما هو منصوص عليه في القوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء". كما نصّ الاقتراح في بنده الثالث على تحديد دقائق القانون بمراسيم تنظيميّة تصدر عن وزير الداخلية. 

وقد برّرت الأسباب الموجبة هذه التعديلات المطروحة لا سيّما اللوائح المقفلة في جميع البلديّات بالدفع نحو "تعزيز الانضباط السياسي والبرامجي" وإعادة الاعتبار للعمل البلدي المنظم، كما اعتبرت أنّ مسألة المناصفة في بلديّة بيروت تتحدّر من كونها "العاصمة الوطنيّة والرمز الجامع"، وأنّ هذه المناصفة تتلاءم "مع التوازنات الوطنيّة المكرّسة في القوانين المرعيّة الإجراء". 

وقد استفاضت الأسباب الموجبة في شرح ضرورة تكريس المناصفة في القانون انطلاقًا من زعمها وجود طروحات تشكّل "تهديدًا لوحدة العاصمة بيروت ولدورها الوطني ورسالتها العالميّة" من دون مزيد من التوضيح. وبالتالي فإن المناصفة تأتي لتعزيز "إرادة أبناء بيروت وتمسّكهم بالعيش المشترك وبإدارة شؤونهم المحليّة بما يتناسب مع طبيعتهم التاريخيّة وهويتهم الثقافيّة، ويصون مستقبلهم المشترك". وقد اعتبرت الأسباب الموجبة أنّ تدخّل المشرّع بات مُلحًّا لإصدار قوانين تحمي "الخيار البيروتي الأصيل وتمنع المسّ بالتقاليد التي درجت العاصمة على احترامها في تشكيل مجالسها وإداراتها". 

ولم تكتفِ الأسباب الموجبة بهذا القدر بل اعتبرت أنّ قوانين البلديات المتعاقبة كانت قد منحت بيروت "موقعًا مميّزًا ضمن قوانين البلديات المتعاقبة، وكانت حريصة على حفظ خصوصياتها". وبالتالي، فإنّ هذه القوانين تشكّل "مرجعًا مهمًا يؤكّد ضرورة استمرار المشرّع في أداء دوره في حماية خصوصيّة العاصمة والحفاظ على تقاليدها في تكوين مجالسها البلديّة". 

انطلاقًا ممّا تقدّم، يبرز عدد من النقاط الإشكاليّة في الاقتراح لا بدّ من التطرّق إليها : 

تعميم اللوائح المقفلة على جميع البلديات

يتخطّى اقتراح التيّار الوطني الحرّ اقتراحًا سابقًا مقدّمًا من النائبين وضّاح الصادق ومارك ضوّ في مسألة تعميم اللوائح المقفلة على البلديات. فبدلًا من حصرها بتلك التي يفوق عدد أعضائها 18 عضوًا، قام الاقتراح الحالي بتعميمها على جميع البلديات المشار إليها في المادة 11 من القانون رقم 29 الصادر سنة 1963، إلّا أنّ الاقتراح قد وقع في خطأ بإشارته إلى هذا القانون نظرًا إلى أنّه ملغى وقد استبدل بالمرسوم الاشتراعي رقم 118 لسنة 1977 الذي بدوره شهد إلغاء بعض مواده واستبدالها بالقانون رقم 665 الصادر سنة 1997. وبالتالي، كان على الاقتراح الإشارة إلى المادة 24 من قانون سنة 1997 التي تحدّد عدد أعضاء المجلس البلدي بحسب عدد السكان، والتي تستبدل المادة 11 في قانون سنة 1963 المشار إليها. 

ويشير البند الأوّل من الاقتراح أيضًا إلى أنّ "احتساب النتائج يكون على أساس مجمل الأصوات التي تنالها كل لائحة"، أيّ أنّ فوز اللائحة يكون بنيلها العدد الأكبر من الأصوات وبالتالي الأغلبيّة البسيطة تكفي، ما يؤدّي على غرار ما هو مطروح في اقتراح الصادق وضوّ، إلى تقليص القاعدة الشعبيّة المطلوبة لفوز اللائحة وبالتالي إضعاف قدرتها التمثيليّة والحطّ من الطبيعيّة الديمقراطيّة للعمليّة الانتخابيّة. كما أنّ اللوائح المقفلة ستؤدّي إلى انتفاء الحاجة للتفاوضوالتوافق بين المرشحين وخلق تحالفات في البلدات والمدن للفوز الانتخابات، ما سيؤدّي إلى تقوقع الفئات والأحزاب على بعضها وتشجيع الأحاديّة في العمل. 

ولا شكّ أن التخوّف الذي أبداه المرصد البرلماني من سيطرة الأحزاب السياسيّة المهيمنة في كل بلدية على العمليّة الانتخابيّة بنتيجة انتفاء الحاجة إلى التحالف يزداد في الاقتراح الحالي لأنّه لم يعد مرتبطا بالمدن الكبيرة ذات المجالس البلديّة المكوّنة من 18 عضوا، بل يمتدّ إلى جميع البلدات في الاقتراح الحالي. وبالتالي، وعلى الرغم من ضرورات التجانس والتوافق في العمل البلدي التي ذكرها الاقتراح لتبرير تكريس اللوائح المقفلة وتعميمها المطلق، فإنّ إلغاء أيّ حاجة إلى بناء جسور بين أبناء البلدات وإرساء تحالفات قد يؤدّي إلى نشوء معارضات حادّة للمجالس البلديّة المُنتخبة وبالتالي انتفاء فعاليّة المجالس المكوّنة من طرف واحد وجعل الوضع أكثر تعقيدًا في العمل البلدي. 

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاقتراح، في فرضه اللوائح المقفلة اكتفى بالإشارة إلى أنّ تقديم اللوائح الانتخابيّة يكون من خلال المرشحين أو أحدهم، من دون مزيد من التفاصيل عن المهل وغيرها من المسائل كما جرى تحديده مثلا في قانون الانتخابات النيابية الصادر سنة 2017 والذي ينص في المادة 54 منه بضرورة تسجيل اللائحة في وزارة الداخلية من قبل أحد المرشحين الذي حصل على توكيل موقع أمام الكاتب العدل من قبل جميع الأعضاء. فالنص المقترح لا يشرح هذه التفاصيل ولا كيفية تقديم اللائحة ولا عن كيفية إعداد ورقة اقتراع رسمية مطبوعة مسبقا، لا بل أنه يسمح أيضا نظريا بتسجيل لائحة تضم مرشحين من دون موافقتهم أو معرفتهم.  

المناصفة وحدها في بلديّة بيروت لا تمنع الإقصاء

لا شك أن البند الثاني من الاقتراح الذي يكرس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في بلديّة بيروت يشكّل جوهر المبادرة التشريعيّة التي قام بها نوّاب التيّار الوطني الحرّ ويفسّر استعجالهم في تقديم الاقتراح قبل الانتخابات البلديّة. إذ إنّ مسألة المناصفة في بلديّة بيروت التي كانت مضمونة بفعل مبادرة سياسيّة بدأ بها الرئيس رفيق الحريري واستكملها نجله الرئيس سعد الحريري قد انتهت مع انسحاب الأخير من الحياة السياسيّة، ما ترك بالتالي الأمور من دون أيّ ضمانة بعدم انتخاب مجلس بلدي في بيروت يحمل أغلبيّة من لون واحد. 

إلّا أنّ نصّ البند الثاني يعاني من صياغة ركيكة ومبهمة، بحيث أنّه يرسي مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في الانتخابات البلديّة في بيروت في بداية الأمر، ثمّ يعود ويشير إلى ضرورة مراعاة هذا التوازن في تشكيل اللوائح، فيما كان من الممكن الاكتفاء بالإشارة إلى ضرورة تشكيل اللوائح مناصفة بين المسيحيين والمسلمين ما سيؤدّي إلى مجالس فيها مناصفة نظرًا إلى أنّ اللوائح مقفلة. لكنّ البند الثاني يكمل فينصّ على أنّ مراعاة التوازن في تشكيل اللوائح يجب أن يتمّ "وفقًا لما هو منصوص عليه في القوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء" وهو أمر غير مفهوم إذ لا يحدّد الاقتراح ماهيّة هذه القوانين والأنظمة ومفعولها على تشكيل اللوائح، في ما يبدو أنّه حشوٌ في الصياغة يزيد النص إبهامًا دون تبرير.

إلّا أنّ الأسباب الموجبة ملفتة في تبريرها المناصفة إذ إنّها تدخل في لعبة التخويف من خلال تكلّمها عن وجود تهديد "لوحدة العاصمة بيروت ولدورها الوطني ورسالتها العالميّة" يتربّص بالعاصمة وأهلها، دون توضيح ماهيّة هذا التهديد وعمّن هو صادر، في ما يبدو جليًّا أنّه لعب على الوتر الطائفي المسيحي وإثارة فزّاعة الأكثريّة المسلمة في بيروت. فالاقتراح يتبنى في أسبابه الموجبة خطابا تهويليا من أجل حماية "الخيار البيروتي الأصيل" المتمثل في "إرادة أبناء بيروت وتمسكهم بالعيش المشترك".

ويمكن الاستنتاج أن الاقتراح باكتفائه بالنص على المناصفة يكون قد امتنع عن تحديد توزيع المقاعد البلدية على الطوائف المختلفة لكل من المسيحيين والمسلمين، وهو أمر قد يشكل تطورا ايجابيا لناحية الحدّ من مبدأ التمثيل الطائفي لكنه في المقابل وفي ظل تبني الاقتراح للوائح المقفلة فإنه قد يؤدي إلى نتيجة يدّعي رغبته في محاربتها، أي إقصاء إحدى الطوائف. إذ لا شيء يمنع من تشكيل لائحة مقفلة تحترم المناصفة لكنها تقصي كليا إحدى الطوائف الكبرى لأسباب سياسية أو إحدى الطوائف الصغرى من أجل إرضاء مرشحين ينتمون إلى طوائف كبرى تكون مشاركتهم أهم من أجل تعزيز فرص اللائحة بالفوز في الانتخابات.

وإذا كان الاقتراح ينطلق من اعتبارات باتت معهودة في الحياة السياسية اللبنانية لكن يجب الإشارة أن الإقصاء لا يتعلق فقط بالطوائف بل قد يطال أيضا النساء وذوي الحاجات الخاصة أو اللبنانيين الذين لا ينتمون إلى طوائف. كذلك لا بد من التذكير بأن حق الاقتراع يرتبط في لبنان بمكان القيد أي أن العديد من سكان البلديات والمدن في لبنان لا يشاركون في انتخاب أعضاء المجلس البلدي كونهم يقطنون في مناطق غير مكان قيدهم القانوني ما يحرمهم من المشاركة في إدارة شؤونهم المحلية حيث مصالحهم الحقيقية.  

مخالفة أصول إصدار المراسيم 

يأتي البند الثالث من الاقتراح بتكليف لوزير الداخلية والبلديّات بتحديد دقائق القانون وذلك من خلال "مراسيم تنظيميّة" تصدر عنه. إلّا أنّ الاقتراح بنصّه هذا يخالف الدستور في مادته 56 التي تنصّ على أنّ رئيس الجمهوريّة هو الذي "يصدر المراسيم ويطلب نشرها"، وقد أوضح المجلس الدستوري في قراره رقم 1 الصادر في الأول من أيّار 2023 على أنّ "المادة 56 من الدستور أناطت صلاحية إصدار القوانين والمراسيم برئيس الجمهورية حصراً، دون غيره من السلطات الدستورية، فلا يجوز بالتالي أن يصدر مرسوم اتّخذ في مجلس الوزراء عن المجلس نفسه"، ما يعني استطرادًا أنّه لا يمكن على وزير الداخليّة أنّ يصدر مراسيم من أيّ نوع كانت. وبالتالي كان من الممكن تجنّب هذه المخالفة في الاقتراح إمّا بالنصّ على صدور المراسيم عن رئيس الجمهوريّة بناء على اقتراح وزير الداخليّة، أو النص على إقرار تلك المراسيم في مجلس الوزراء كون هذا الأخير هو الذي يمارس السلطة التنظيمية عملا بالمادة 64 من الدستور.

في الخلاصة، لا شك أن تبديد الهواجس الطائفيّة لا سيما في العاصمة بيروت يمكن ضمانه عبر تكريسه في نصوص قانونية واضحة تمنع المزايدات والشعبوية والتحريض الذي تمارسه أحزاب السلطة من أجل تحقيق مصالحها السلطوية. إذ أن وجود ضمانة قانونية يظل أفضل من ضمانة الزعيم بحيث تصبح المشاركة منّة شخصية متعلقة بمزاج هذا الزعيم أو ذاك. فالحدّ من المخاوف الطائفية التي يسهل استغلالها عبر القانون قد يكون حلا شريطة ألّا يتم ذلك على حساب التعدديّة في التمثيل. لكن ذلك لا يبرر وجود لوائح مقفلة ستفضي إلى هيمنة الأحزاب الكبيرة على العمل البلدي لا سيما في العاصمة بيروت حيث ضرورة تأمين المناصفة بين المسيحيين والمسلمين تقترن مع وجود لائحة مقفلة مفروضة من قبل الأقوياء من أجل إقصاء أي منافس سياسي لهم ومنع مشاركة أي جهة أخرى في المجلس البلدي. وهكذا يتبين أن هدف الاقتراح الفعلي ليس المناصفة بل أن توخّي هذه الأخيرة لا يعدو كونه وسيلة من أجل تأمين هيمنة جهات سياسية معينة على بلدية العاصمة.